أسئلة عن الثورة لم ننتبه إليها قبلاً
عبد الاله بلقزيز
عبد الاله بلقزيز
بعد لحظة عابرة خلنا فيها، واهمين، أن مسلسل الثورات العربية المتصل يفتح أفقاً عربياً جديداً للتحرر من مواريث الحقبة الأمريكية الصهيونية، ويضع أمريكا و”إسرائيل” في موضع حرج، بعد إطاحة أنظمة حليفة لها، نتفاجأ بالحماسة الأمريكية الأوروبية - “الإسرائيلية” لما يجري من تغييرات، وبمواكب الكلام عنها بوصفها إيذاناً بميلاد “الشرق الأوسط الجديد”، حتى إن قائداً صهيونياً نافذاً لم يتورع عن القول، جهرة، إن سقوط النظام السوري سيكون خيراً وبركة على منطقة “الشرق الأوسط” . والأعزب، في سيرة تلك الحماسة الغربية للثورات العربية، أن تُسْتَقبل نتائج الاقتراعات العربية بحفاوة، على الرغم من أنها حملت إلى سدة السلطة نخباً سياسية كانت أمريكا وأوروبا، إلى عهد قريب، تعالنها الخصومة حتى لا نقول إنها كانت تعاديها، وتتوجس منها، وتتهمها بنشر مشاعر الكراهية للغرب، وبمعاداة قيمه الحضارية .
من النافل القول إن الاعتقاد الذي ساد لدينا، في أول أمر الثورات، بحتمية التناقض بين نتائج الثورة والسياسات والمصالح الغربية والصهيونية في الوطن العربي، ظَنيٌّ وفَرضيٌّ أكثر مما هو مبني على قرائن مادية، فالثورة - بهذا المقتضى - لا يمكن إلا أن تنتهي إلى توليد نظم سياسية شرعية مناهضة للسياسات الأمريكية وللاحتلال والعدوانية الصهيونيين؛ ألم تُطِحْ بحلفاء أمريكا و”إسرائيل”؟ ألم تنشد الديمقراطية التي وقف الغرب في وجه ميلادها بنشدانه الاستقرار وحمايته أنظمة الاستبداد؟ ألم تكن ثورة شباب متعلّم تَطلّع إلى استعادة الكرامة الوطنية التي يعرف، يقيناً، من ذا الذي امتهنها ومرّغها في الأوحال؟ ألا تنذر الثورة عواصم الغرب والكيان الصهيوني بقيام نظم حكم جديدة سيكون لأعدائهم فيها حصة ونصيب؟
أسئلة مشروعة تماماً، لكنها لا تسمح بأكثر من إجابات فرضية وإن بدتْ يقينية أو بديهية . ولقد فاتنا أن نلاحظ كيف أن شعارات الثورة والانتفاضة، في الميادين والساحات العامة، دارت على مطالب سياسية كالحرية والديمقراطية، وعلى مطالب اجتماعية كالعدالة الاجتماعية، بينما هي لم تستدمج في منظومة المطالب شيئاً عن المسائل الوطنية والقومية، كتحرير الأراضي المغتصبة، وتحرير القرار الوطني من الهيمنة الأجنبية، والتحرر الاقتصادي من التبعية للمراكز الإمبريالية، وحماية الأمن القومي المستباح بالتدخل العسكري والقواعد والأساطيل الأجنبية . . إلخ، حتى إن شعاراً واحداً لم يرفع في وجه أمريكا والغرب و”إسرائيل”، وكأن هذه لم تكن مسؤولة عن بؤسنا السياسي والاجتماعي، وتخلفنا المادي، والديكتاتورية في بلداننا، وكأنها لم تكن تدعم تلك الأنظمة التي سقطت .
كان مثيراً ذلك التجاهل الكامل للمطالب الوطنية والقومية، في وجه أمريكا والدولة الصهيونية، في شعارات الشباب، والثوار . وكان يُرَدُّ على الملاحظة، في حينه، بأن ذلك مقصود بذكاء لئلا يُسْتَنفرَ الغرب ضد الثورة، أو من أجل كسب حياده السياسي في معركة سيجد نفسه محرجاً في مناهضتها، هي المعركة ضد الاستبداد والفساد، ومن أجل الديمقراطية والعدالة الاجتماعية . ولم يكن المبرر أكثر من ذريعة غير مقنعة، ذلك أن أحداً لم يرفع الصوت ضد تدخلات أمريكا وأوروبا، السياسية والعسكرية، في شؤون الثورة ومسارها ومصيرها، لكن أكثرهم احتجّ على روسيا والصين وأحرق علميهما لأول مرة في تاريخ وطن عربي لم يتعوّد أن يحرق أجياله السابقون غير أعلام “إسرائيل” والولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا . أليس في الأمر، إذاً، ما يثير الريبة والشك؟
تلك وقائع حدثت أمام أنظارنا لم ننتبه إليها حين حدثت، أو قل لم نشأ أن ننتبه إليها حتى لا يفسد الانتباه إليها لحظة الفرح بالانتصار: الذي عشنا بالجوارح كلها فصوله الكاملة في تلك الأسابيع الأولى من نجاح الثورتين التونسية والمصرية . آثرنا، تحت ضغط اللحظة العاطفية، أن نلوذ بالافتراضات، وبحسن الظن، ونحن نقرأ فنجان الثورة، ونستبصر وعودها ومستقبلها، معرضين عن الوقائع والقرائن، وضاربين صفحاً عن أسئلة حارقة قذفها في وجوهنا بعض قليل ممن تمالك نفسه أمام انهمار أمطار الثورة، فتحوّط من الوقوع في شراك الاحتفالية، مُؤْثراً البعض القليل من الانتظار إلى أن يتبدّد عجاج الواقعة ويتبيّن الخيط الأبيض من الأسود .
واليوم، في وسع أيّ منا أن يتساءل جهراً: أين فلسطين في كل هذا الذي جرى ويجري؟ من ذا الذي قال في حق شعبها وقضيتها ما يبشر ويطمئن؟ أين الخطر الصهيوني المحدق بأمن الأمة واستقرارها وتنميتها في خطابات زيد وعمرو ممن كانوا يُبلون بلاءً حسناً في مواجهة هذا الخطر، ولو باللسان؟ لماذا لا نسمع من “قوى الثورة” سوى رسائل الاطمئنان بأن “إسرائيل” بعيدة عن حدودنا، أو أننا سنحترم الاتفاقات والمعاهدات الدولية المبرمة؟ ولماذا تتسابق هذه القوى إلى كسب ود وثقة أمريكا، وتسعى إلى إقناعها بالأهلية للمحالفة، وتبديد الصور النمطية السلبية التي كونتها أمريكا عنها؟ ولماذا يجاهر من يجاهر بطلب مساعدتها لإنقاذنا من هذا النظام أو ذاك؟
أسئلة في غاية المشروعية أمام هذه النازلة المحيّرة التي يتعسر استخراج حكمها .
الخليج الإماراتية :26/12/2011
من النافل القول إن الاعتقاد الذي ساد لدينا، في أول أمر الثورات، بحتمية التناقض بين نتائج الثورة والسياسات والمصالح الغربية والصهيونية في الوطن العربي، ظَنيٌّ وفَرضيٌّ أكثر مما هو مبني على قرائن مادية، فالثورة - بهذا المقتضى - لا يمكن إلا أن تنتهي إلى توليد نظم سياسية شرعية مناهضة للسياسات الأمريكية وللاحتلال والعدوانية الصهيونيين؛ ألم تُطِحْ بحلفاء أمريكا و”إسرائيل”؟ ألم تنشد الديمقراطية التي وقف الغرب في وجه ميلادها بنشدانه الاستقرار وحمايته أنظمة الاستبداد؟ ألم تكن ثورة شباب متعلّم تَطلّع إلى استعادة الكرامة الوطنية التي يعرف، يقيناً، من ذا الذي امتهنها ومرّغها في الأوحال؟ ألا تنذر الثورة عواصم الغرب والكيان الصهيوني بقيام نظم حكم جديدة سيكون لأعدائهم فيها حصة ونصيب؟
أسئلة مشروعة تماماً، لكنها لا تسمح بأكثر من إجابات فرضية وإن بدتْ يقينية أو بديهية . ولقد فاتنا أن نلاحظ كيف أن شعارات الثورة والانتفاضة، في الميادين والساحات العامة، دارت على مطالب سياسية كالحرية والديمقراطية، وعلى مطالب اجتماعية كالعدالة الاجتماعية، بينما هي لم تستدمج في منظومة المطالب شيئاً عن المسائل الوطنية والقومية، كتحرير الأراضي المغتصبة، وتحرير القرار الوطني من الهيمنة الأجنبية، والتحرر الاقتصادي من التبعية للمراكز الإمبريالية، وحماية الأمن القومي المستباح بالتدخل العسكري والقواعد والأساطيل الأجنبية . . إلخ، حتى إن شعاراً واحداً لم يرفع في وجه أمريكا والغرب و”إسرائيل”، وكأن هذه لم تكن مسؤولة عن بؤسنا السياسي والاجتماعي، وتخلفنا المادي، والديكتاتورية في بلداننا، وكأنها لم تكن تدعم تلك الأنظمة التي سقطت .
كان مثيراً ذلك التجاهل الكامل للمطالب الوطنية والقومية، في وجه أمريكا والدولة الصهيونية، في شعارات الشباب، والثوار . وكان يُرَدُّ على الملاحظة، في حينه، بأن ذلك مقصود بذكاء لئلا يُسْتَنفرَ الغرب ضد الثورة، أو من أجل كسب حياده السياسي في معركة سيجد نفسه محرجاً في مناهضتها، هي المعركة ضد الاستبداد والفساد، ومن أجل الديمقراطية والعدالة الاجتماعية . ولم يكن المبرر أكثر من ذريعة غير مقنعة، ذلك أن أحداً لم يرفع الصوت ضد تدخلات أمريكا وأوروبا، السياسية والعسكرية، في شؤون الثورة ومسارها ومصيرها، لكن أكثرهم احتجّ على روسيا والصين وأحرق علميهما لأول مرة في تاريخ وطن عربي لم يتعوّد أن يحرق أجياله السابقون غير أعلام “إسرائيل” والولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا . أليس في الأمر، إذاً، ما يثير الريبة والشك؟
تلك وقائع حدثت أمام أنظارنا لم ننتبه إليها حين حدثت، أو قل لم نشأ أن ننتبه إليها حتى لا يفسد الانتباه إليها لحظة الفرح بالانتصار: الذي عشنا بالجوارح كلها فصوله الكاملة في تلك الأسابيع الأولى من نجاح الثورتين التونسية والمصرية . آثرنا، تحت ضغط اللحظة العاطفية، أن نلوذ بالافتراضات، وبحسن الظن، ونحن نقرأ فنجان الثورة، ونستبصر وعودها ومستقبلها، معرضين عن الوقائع والقرائن، وضاربين صفحاً عن أسئلة حارقة قذفها في وجوهنا بعض قليل ممن تمالك نفسه أمام انهمار أمطار الثورة، فتحوّط من الوقوع في شراك الاحتفالية، مُؤْثراً البعض القليل من الانتظار إلى أن يتبدّد عجاج الواقعة ويتبيّن الخيط الأبيض من الأسود .
واليوم، في وسع أيّ منا أن يتساءل جهراً: أين فلسطين في كل هذا الذي جرى ويجري؟ من ذا الذي قال في حق شعبها وقضيتها ما يبشر ويطمئن؟ أين الخطر الصهيوني المحدق بأمن الأمة واستقرارها وتنميتها في خطابات زيد وعمرو ممن كانوا يُبلون بلاءً حسناً في مواجهة هذا الخطر، ولو باللسان؟ لماذا لا نسمع من “قوى الثورة” سوى رسائل الاطمئنان بأن “إسرائيل” بعيدة عن حدودنا، أو أننا سنحترم الاتفاقات والمعاهدات الدولية المبرمة؟ ولماذا تتسابق هذه القوى إلى كسب ود وثقة أمريكا، وتسعى إلى إقناعها بالأهلية للمحالفة، وتبديد الصور النمطية السلبية التي كونتها أمريكا عنها؟ ولماذا يجاهر من يجاهر بطلب مساعدتها لإنقاذنا من هذا النظام أو ذاك؟
أسئلة في غاية المشروعية أمام هذه النازلة المحيّرة التي يتعسر استخراج حكمها .
الخليج الإماراتية :26/12/2011
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق