الديموقراطية المحمولة على الـ«إف 16»
الديموقراطية خير من الاستبداد. بالطبع. على مدى عقود، كانت تلك احدى البديهيات التي لا يمكن أن يتعارض بشأنها معارضان، ولا حتى أن يتناطح بشأنها تيسان (من «تيوس» الموالاة لأنظمة التسلط العربية)، إلى أن أنعم الله على هذه الأمة بأصناف جديدة من الديموقراطية، المحمولة على ظهور الدبابات. بدأ ذلك في جزائر الجنرالات، مطلع التسعينات، ثم توالى فصولاً في أفغانستان وعراق «المحافظين الجدد»، الذين بزغ نجمهم مع مطلع الألفية الجديدة. والآتي أدهى وأعظم، بلا شك.
كثيرون منا كانوا يعتقدون، حتى أشهر قريبة، بأنّ تلك المسرحية التراجيكوميدية، المبشِّرة بنشر الديموقراطية عن طريق الإنزال العسكري، سقطت بسقوط «المحافظين الجدد»، فلا يمكن أن تنطلي الحيلة على أحد، بعدما «عشنا وشفنا»، خلال العُشرية البوشية الآفلة، ما يكفي من العجائب والمفارقات التي سعت لجعل الانعتاق من الاستبداد مطية للاستعمار الجديد، وتحويل الديموقراطية إلى نبتة مسمومة، لا يمكن أن تنمو وتزدهر سوى تحت ظلال الاحتلال الوارفة!
لهؤلاء أقول: مهلاً! فالحكاية، على ما يبدو، لم تنته عند ذلك الحد. صحيح أنّ كتائب «المقاومة» أو فلول «الإرهاب» (سمِّها كما شئت!) أرغمت قادة «العالم الحرّ» على مراجعة حساباتهم، والعزوف عن تكرار تجارب الاحتلال المباشر. لكن ذلك لن يحدّ، بالتأكيد، من روح الابتكار التي يتَّسم بها «أنبياء الحرية الجدد». وفي مقدمة هؤلاء، آية الله العظمى: برنار هنري ليفي! فإذا لم يعد ممكناً نشر الديموقراطية برّاً، على ظهور الدبابات، لماذا لا نجرِّب تقنيات الإنزال الجوي، لننثر أزهار الحرية فوق رؤوس الشعوب المقهورة، بواسطة «الرافال» و»الآباتشي»؟
وإذا صدقت آخر خرجات الفيلسوف الفرنسي المتصهين، في المقالة التي أعلن فيها الحرب على الرئيس السوري (مجلة «لوبوان» الفرنسية ـ عدد 17/11/2011)، فإن المكتبات ستطالعنا قريباً بنسخة منقّحة لأشهر كُتب الدكتور برهان غليون، بعد تعديل عنوانه، تماشياً مع روح العصر، ليصبح: بيان من أجل الديموقراطية... المحمولة على ظهور طائرات «إف 16»!
منذ أن انتُخب صاحب «اغتيال العقل» رئيساً للمجلس الوطني السوري، وأنا أتساءل ــ بيني وبين نفسي ــ ما الذي زجَّ بمثقف، كل زاده من الدنيا بضعة مؤلفات في علم الاجتماع السياسي، في معمعة الإشراف على مجلس كهذا؟ كلنا نؤمن (نحلم؟) بدور طليعي للمثقف العربي في مواجهة أنظمة الطغيان والتسلط. وللدكتور غليون مواقف مشهودة في هذا الشأن، لا يمكن أن ينكرها إلا جاحد. لكن الطليعية المنشودة من المثقف إنما تتمثل في لعب دور «ضمير نقدي» مهمته السيزيفية أن يشير على الدوام، بلا كلل أو توقف، إلى الخطوط الحُمر الأخلاقية التي يجب على جميع الأفرقاء مراعاتها. وخاصة في ظرف مأساوي مثل الذي تشهده سوريا، حيث يسقط العشرات كل يوم برصاص القمع الدموي، فيما تحف بالبلاد منزلقات ومخاطر من شأنها أن تعصف بآخر ما تبقى من قلاع المقاومة والكرامة، لا في سوريا وحسب، بل في المنطقة العربية بأكملها.
هذا الدور الأخلاقي يقتضي من المثقف أن يلتزم بـ«مسافة نقدية» عن المعمعة السياسية، بمفهومها الحزبي الضيق. أما إذا دخل كطرف في تنظيم أو فريق معين، فإنّه يخرج عن دوره كمثقف، ليصبح رجل سياسة، يخوض كغيره في معارك السياسة، التي لا تخضع ــ بالضرورة ــ للمواقف المبدئية أو الأخلاقية، بل تحكمها اعتبارات الأكثرية والأقلية، ومقتضيات التكتيك والاستراتيجية...إلخ.
من هذا المنظور، يجوز التساؤل إن كانت مكانة الدكتور برهان غليون المرموقة، كمثقف طليعي ومعارض، كافية لمنحه التأهيل اللازم لإدارة دفة المعارضة السورية اليوم، وربما السلطة غداً؟ فالمثقف، مهما كانت مكانته الأكاديمية واستماتته في الدفاع عن الديموقراطية، ليس مؤهلاً بالضرورة لأدوار الزعامة السياسية أو التسيير الإداري. وأذكر أنّني، في سنوات شبابي الغابرة، قدّمتُ أطروحة لشهادة الدراسات المعمّقة، بمركز دراسات الشرق المعاصر، الذي يديره الدكتور برهان غليون، في جامعة السوربون. وبالرغم من أنّني كنتُ آنذاك قادماً إلى أنوار باريس من جامعة عالمثالثية، إلا أنّني لم أجد أنّ أسلوب إدارة ذلك المركز كان مثالاً في الصرامة الأكاديمية أو ما يسمى في أيامنا هذه «الحُكم الرشيد»!
لا أقول هذا بقصد التجني على الدكتور برهان غليون، بل للتذكير بأمر بديهي: حتى في التقليد الفرنسي الذي يولي للمثقفين على الدوام دوراً سياسياً بارزاً، ظلّت «سلطة المثقف» ــ كما نشأت وتطوّرت، من زولا إلى سارتر ــ سلطة معنوية وأخلاقية، لا غير. أما حين انساق لامارتين، مثلاً، إلى معمعة السياسة بمفهومها الإداري والحزبي، إثر ثورة 1848، فترأس الحكومة المؤقتة للجمهورية الفرنسية الثانية، طيلة ثلاثة أشهر لا غير، فقد كانت النتيجة كارثية. ومُني لامارتين العظيم في المعترك الانتخابي الموالي بهزيمة مدوية أمام نابوليون بونابرت، إذ لم ينل أكثر من 0.26 بالمائة من الأصوات!
قياساً على ذلك، يجوز النظر بعين النقد إلى أداء الدكتور برهان غليون كـ«رجل سياسة»، منذ أن تولى رئاسة المجلس الوطني السوري، من دون أن يكون في هذا الأمر أي نكران للدور الطليعي الذي لعبه كمثقف في المرافعة، على مدى عقود، من أجل الديموقراطية في بلده سوريا، وفي العالم العربي بشكل أعمَّ.
أقول قولي هذا، لأعود إلى مقالة برنار هنري ليفي المشار إليها أعلاه. وفيها يكشف «الفيلسوف ذو الياقة البيضاء» بأنّ المساعي التي يبذلها في الكواليس، منذ أشهر، جعلت غالبية رموز المعارضة السورية في باريس تغيّر مواقفها لتأييد سيناريو «التدخل الدولي»، على الطريقة الليبية في سوريا. مضيفاً بأنّ الأمر يشمل حتى بعض من قالوا له، قبل الصيف الماضي، بأنّهم يفضّلون الموت على النطق بكلمة «تدخل» أجنبي في سوريا! وفي ذلك تلميح واضح إلى الدكتور برهان غليون.
إذا صدق هذا الكلام، فإنّ سقطة (رجل السياسة) برهان غليون ستكون قاسية ومجلجلة مثل سقطة (رئيس الحكومة) لامارتين!
كثيرون منا كانوا يعتقدون، حتى أشهر قريبة، بأنّ تلك المسرحية التراجيكوميدية، المبشِّرة بنشر الديموقراطية عن طريق الإنزال العسكري، سقطت بسقوط «المحافظين الجدد»، فلا يمكن أن تنطلي الحيلة على أحد، بعدما «عشنا وشفنا»، خلال العُشرية البوشية الآفلة، ما يكفي من العجائب والمفارقات التي سعت لجعل الانعتاق من الاستبداد مطية للاستعمار الجديد، وتحويل الديموقراطية إلى نبتة مسمومة، لا يمكن أن تنمو وتزدهر سوى تحت ظلال الاحتلال الوارفة!
لهؤلاء أقول: مهلاً! فالحكاية، على ما يبدو، لم تنته عند ذلك الحد. صحيح أنّ كتائب «المقاومة» أو فلول «الإرهاب» (سمِّها كما شئت!) أرغمت قادة «العالم الحرّ» على مراجعة حساباتهم، والعزوف عن تكرار تجارب الاحتلال المباشر. لكن ذلك لن يحدّ، بالتأكيد، من روح الابتكار التي يتَّسم بها «أنبياء الحرية الجدد». وفي مقدمة هؤلاء، آية الله العظمى: برنار هنري ليفي! فإذا لم يعد ممكناً نشر الديموقراطية برّاً، على ظهور الدبابات، لماذا لا نجرِّب تقنيات الإنزال الجوي، لننثر أزهار الحرية فوق رؤوس الشعوب المقهورة، بواسطة «الرافال» و»الآباتشي»؟
وإذا صدقت آخر خرجات الفيلسوف الفرنسي المتصهين، في المقالة التي أعلن فيها الحرب على الرئيس السوري (مجلة «لوبوان» الفرنسية ـ عدد 17/11/2011)، فإن المكتبات ستطالعنا قريباً بنسخة منقّحة لأشهر كُتب الدكتور برهان غليون، بعد تعديل عنوانه، تماشياً مع روح العصر، ليصبح: بيان من أجل الديموقراطية... المحمولة على ظهور طائرات «إف 16»!
منذ أن انتُخب صاحب «اغتيال العقل» رئيساً للمجلس الوطني السوري، وأنا أتساءل ــ بيني وبين نفسي ــ ما الذي زجَّ بمثقف، كل زاده من الدنيا بضعة مؤلفات في علم الاجتماع السياسي، في معمعة الإشراف على مجلس كهذا؟ كلنا نؤمن (نحلم؟) بدور طليعي للمثقف العربي في مواجهة أنظمة الطغيان والتسلط. وللدكتور غليون مواقف مشهودة في هذا الشأن، لا يمكن أن ينكرها إلا جاحد. لكن الطليعية المنشودة من المثقف إنما تتمثل في لعب دور «ضمير نقدي» مهمته السيزيفية أن يشير على الدوام، بلا كلل أو توقف، إلى الخطوط الحُمر الأخلاقية التي يجب على جميع الأفرقاء مراعاتها. وخاصة في ظرف مأساوي مثل الذي تشهده سوريا، حيث يسقط العشرات كل يوم برصاص القمع الدموي، فيما تحف بالبلاد منزلقات ومخاطر من شأنها أن تعصف بآخر ما تبقى من قلاع المقاومة والكرامة، لا في سوريا وحسب، بل في المنطقة العربية بأكملها.
هذا الدور الأخلاقي يقتضي من المثقف أن يلتزم بـ«مسافة نقدية» عن المعمعة السياسية، بمفهومها الحزبي الضيق. أما إذا دخل كطرف في تنظيم أو فريق معين، فإنّه يخرج عن دوره كمثقف، ليصبح رجل سياسة، يخوض كغيره في معارك السياسة، التي لا تخضع ــ بالضرورة ــ للمواقف المبدئية أو الأخلاقية، بل تحكمها اعتبارات الأكثرية والأقلية، ومقتضيات التكتيك والاستراتيجية...إلخ.
من هذا المنظور، يجوز التساؤل إن كانت مكانة الدكتور برهان غليون المرموقة، كمثقف طليعي ومعارض، كافية لمنحه التأهيل اللازم لإدارة دفة المعارضة السورية اليوم، وربما السلطة غداً؟ فالمثقف، مهما كانت مكانته الأكاديمية واستماتته في الدفاع عن الديموقراطية، ليس مؤهلاً بالضرورة لأدوار الزعامة السياسية أو التسيير الإداري. وأذكر أنّني، في سنوات شبابي الغابرة، قدّمتُ أطروحة لشهادة الدراسات المعمّقة، بمركز دراسات الشرق المعاصر، الذي يديره الدكتور برهان غليون، في جامعة السوربون. وبالرغم من أنّني كنتُ آنذاك قادماً إلى أنوار باريس من جامعة عالمثالثية، إلا أنّني لم أجد أنّ أسلوب إدارة ذلك المركز كان مثالاً في الصرامة الأكاديمية أو ما يسمى في أيامنا هذه «الحُكم الرشيد»!
لا أقول هذا بقصد التجني على الدكتور برهان غليون، بل للتذكير بأمر بديهي: حتى في التقليد الفرنسي الذي يولي للمثقفين على الدوام دوراً سياسياً بارزاً، ظلّت «سلطة المثقف» ــ كما نشأت وتطوّرت، من زولا إلى سارتر ــ سلطة معنوية وأخلاقية، لا غير. أما حين انساق لامارتين، مثلاً، إلى معمعة السياسة بمفهومها الإداري والحزبي، إثر ثورة 1848، فترأس الحكومة المؤقتة للجمهورية الفرنسية الثانية، طيلة ثلاثة أشهر لا غير، فقد كانت النتيجة كارثية. ومُني لامارتين العظيم في المعترك الانتخابي الموالي بهزيمة مدوية أمام نابوليون بونابرت، إذ لم ينل أكثر من 0.26 بالمائة من الأصوات!
قياساً على ذلك، يجوز النظر بعين النقد إلى أداء الدكتور برهان غليون كـ«رجل سياسة»، منذ أن تولى رئاسة المجلس الوطني السوري، من دون أن يكون في هذا الأمر أي نكران للدور الطليعي الذي لعبه كمثقف في المرافعة، على مدى عقود، من أجل الديموقراطية في بلده سوريا، وفي العالم العربي بشكل أعمَّ.
أقول قولي هذا، لأعود إلى مقالة برنار هنري ليفي المشار إليها أعلاه. وفيها يكشف «الفيلسوف ذو الياقة البيضاء» بأنّ المساعي التي يبذلها في الكواليس، منذ أشهر، جعلت غالبية رموز المعارضة السورية في باريس تغيّر مواقفها لتأييد سيناريو «التدخل الدولي»، على الطريقة الليبية في سوريا. مضيفاً بأنّ الأمر يشمل حتى بعض من قالوا له، قبل الصيف الماضي، بأنّهم يفضّلون الموت على النطق بكلمة «تدخل» أجنبي في سوريا! وفي ذلك تلميح واضح إلى الدكتور برهان غليون.
إذا صدق هذا الكلام، فإنّ سقطة (رجل السياسة) برهان غليون ستكون قاسية ومجلجلة مثل سقطة (رئيس الحكومة) لامارتين!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق