في العام (2003) قامت قوات الاحتلال الأمريكية في العراق بتدمير قبر مؤسس حزب البعث العربي الاشتراكي الاستاذ ميشيل عفلق إثر قرار مجلس الحكم الانتقالي باجتثاث حزب البعث، ومنذ ذلك التاريخ وحتى اليوم جرت مياه كثيرة تحت جسور العراق الذي جسد التجربة البعثية، ومازال هذا الحزب بتنظيماته العديدة على مستوى العالم العربي يلعب دوره السياسي رافضاً مبدأ "الاجتثاث"، فيما تقول قيادته إنها ما زالت تراهن على أفكار حزبها وحيويته.. (المجهر) جلست إلى عضو القيادة القومية لحزب البعث العربي الاشتراكي علي الريح السنهوري بعد أن وضعت أمامه العديد من الأسئلة..
دعنا نبدأ باتهامات قيام حزب البعث بمحاولات انقلابات عسكرية من حين لآخر.. ماصحة مثل هذه الاتهامات المتكررة منذ عهد الرئيس نميري؟
- حزب البعث لم يعمل في يوم من الأيام للقيام بانقلاب عسكري بغرض السيطرة على البلاد أو الانفراد بالسلطة، فالحزب ناضل في عهد "نميري" مع كل فئات الشعب السوداني من خلال تجمع الشعب السوداني لإسقاط الديكتاتورية، واستنهض في ذلك قطاعات الشعب كافة بما فيها القوات المسلحة، وفي كل تاريخ الحزب في السودان منذ عهد الفريق "إبراهيم عبود" وفترة ثورة أكتوبر إلى آخره، كان الواضح أن هذا الحزب هو من المدافعين الأصلاء عن الديمقراطية، وذلك يرجع لإيمانه بأن السودان لا يمكن أن يتقدم إلا من خلال نظام ديمقراطي تعددي تحشد فيه جهود وإمكانيات وطاقات كل أبناء السودان لمواجهة تحديات التخلف والتبعية التي أضيفت إليها لاحقاً تحديات التجزئة والتشطير والتفتيت. كل من اتهم حزب البعث بانقلاب كان يؤكد أن هذا الحزب كان يريد إعادة الديمقراطية والدفاع عنها، وبعض القوى بررت قيامها بانقلابات بدعوى أنها استبقت (انقلاب بعثي) كان يدبر قبل استلامها للسلطة، ولكن هذه مجرد تبريرات، لأنها عندما تبينت أن هناك انقلاباً أو تحضيراً لانقلاب كان بإمكانها إسقاط هذا الانقلاب وإعادة الديمقراطية، ولكنها لم تُعِيد الديمقراطية.
كيف يعيد الضباط والجنود الديمقراطية؟
- بعد انتفاضة (مارس - أبريل) الشعبية المجيدة، لعب حزب (البعث) الدور الأكبر في إنهاء الفترة الانتقالية والمطالبة بإجراء انتخابات مبكرة.
تقصد حزب البعث في عمله السياسي أم داخل القوات المسلحة؟
- في كل القطاعات، أما (التنظيم الوطني لضباط وصف وجنود القوات المسلحة) وفق برامجه ومواقفه المعلنة في فترة مابعد الانتفاضة، فكان هو المدافع والحارس للنظام الديمقراطي. في الخدمة وخارجها، لأنهم هم الذين زحفوا يومي (4) و(5) أبريل وضغطوا على القيادة العامة للانحياز للشعب وإسقاط الديكتاتورية، ولأنهم كانوا يعتبرون أن الانتفاضة هي أحد إنجازاتهم المهمة، وإعادة السلطة للشعب هي أحد إنجازاتهم المهمة، ولدى قادة التنظيم الوطني الشهداء وغيرهم نظرية واضحة تقول إن الانقلابات العسكرية كانت وبالاً على القوات المسلحة قبل أن تكون وبالاً على الشعب، وأنها أضعفت القوات المسلحة..
عفوا متى صدر هذا الرأي؟
- هذا موجود في برامجهم المعلنة، وفي المحاكمة لجريدة (الراية) في حينها، وفي لقاءات صحفية موثقة مع الشهيد "عثمان بلول" والشهيد "خالد الزين"، وهي موثقة في مجلة (الدستور) اللندنية، وموثقة في الصحف السودانية، بل كانوا يعتقدون أنه على القوات المسلحة أن تتحول إلى قوات عصرية ذات جاهزية كاملة لأن الأمن الاقتصادي والأمن السياسي للبلاد لن يتحقق إلا بوجود قوات مسلحة ذات حيدة ومهنية وقدرات عالية. صحيح أن الناس تعودت على الانقلابات العسكرية، ومن النادر أن يتحرك العسكر في سبيل إعادة نظام مدني ونظام ديمقراطي، ولكن هذه ميزة قادة (التنظيم الوطني لضباط وصف وجنود القوات المسلحة).
هل صحيح أن انقلاب (الجبهة الإسلامية القومية) في العام (1989) جاء استباقا لانقلاب بعثي كنتم تعدون له؟
- التحجج لانقلاب الجبهة الإسلامية في العام (1988) بأنه استباق لانقلاب بعثي كان يمكن أن نصدقه إذا أعيدت السلطة إلى الشعب، ولكنهم متمسكون بالسلطة بقوة وبالتفرد بحكم البلاد التي عجزوا عن إدارة شئونها وفرطوا في وحدتها ووضعت الآن على مائدة التفتيت، وأنت كصحفي تقرأ مقولاتهم التي لا يمت بعضها إلى القيم العادية للشعب السوداني.. وأنا قلتها من قبل إن القوات المسلحة إذا وقفت مع الشعب لإعادة الديمقراطية، فهذا موقف محمود، وهذا موقفها في أكتوبر وأبريل وموقفها الطبيعي في حماية الدستور الذي تم نقضه والخروج عليه في العام (1989).
البعثيون تسلموا الحكم في العراق عبر انقلاب عسكري في العام (1963).. ألا يتناقض ذلك مع ما تحاول رسمه من صورة لعسكريي (البعث)؟
- في ذلك العام قوات الحرس القومي وهي (مليشيات بعثية) وليس انقلاباً عسكرياً قامت في (الضحى).. في يوم (14) رمضان وفي وضح النهار، بالسيطرة على مؤسسات الدولة وانحازت اليها وحدات من القوات المسلحة، وفي العام (1968) اقتحم "صدام حسين" وأعداد كبيرة من البعثيين القصر الجمهوري ومؤسسات الدولة وسيطروا عليها، أي لم يكن انقلاباً عسكرياً، وفي الحالين لم تكن هنالك ديمقراطية، بل نظاماً ديكتاتورياً فاشياً قام في عهد "عبد الكريم قاسم" بقتل الآلاف من البعثيين في أحداث (الموصل) و(كركوك) و(بغداد)، وفي عهد "عبد السلام محمد عارف" أبيد عشرات الآلاف من البعثيين، فلم يكونوا يواجهون نظاماً ديمقراطياً، كما لم يسجل التاريخ أن البعثيين قد انقلبوا على نظام ديمقراطي.
حزبكم في ممارسته العملية للحكم بنى نظاماً أيديولوجياً أقصى كل ما عداه من أحزاب وتيارات سياسية، ونظام "صدام حسين" أكبر مثال للديكتاتورية؟
- هذه المسألة تحتاج إلى تدقيق، في العراق عندما انتزع البعثيون السلطة كان أول ما قاموا به هو فتح حوار مع القوى السياسية الوطنية، وكانت ممثلة في حزبين للشيوعيين وحزب وطني وأحزاب كردية، وقاموا بتشكيل (جبهة وطنية قومية تقدمية) من هذه القوى.
مقاطعة: الوقائع تقول بعكس ما تحاول رسمه من صورة وردية، فـ"صدام حسين " قام في بدايات تسلمه للحكم بتصفية رفاقه وكانوا من أميز القيادات البعثية؟
لا أدري من أين تأتي بهذه المعلومات.
الواقعة موثقة بالفيديو وأحدثت شرخاً حتى بداخل حزبكم الذي تحول إلى حكم تسلطي، ناهيك عن (الجبهة التقدمية) التي انقلب عليها البعثيون لاحقاً فأضحت مجرد لافتة؟
- حزب البعث العربي الاشتراكي لم يطح بالجبهة الوطنية والقومية التقدمية.. لقد انسحب منها الحزب الشيوعي لأسباب كثيرة لا يتسع المجال لأذكرها لك هنا، وظلت بعض الأحزاب الكردية موجودة في الجبهة إلى حين احتلال العراق، وأثناء ذلك صدرت دعوات كثيرة للقوى السياسية المعارضة خارج العراق، ولكن بعضها كان مرتهناً لإيران، وبعضها مرتهن لأمريكا، وهي القوى التي تشاهدها الآن على المسرح السياسي العراقي، هل هذه هي الأحزاب الوطنية التي كان ينبغي أن يتحالف معها (البعث)؟
هذا مجرد تبرير من جانبكم، فالتجربة البعثية طبقت بشكل كامل في العراق، ولم تسمح لغيرها إلا بشكل ديكوري.. أليس ذلك يناقض ما تقوله؟
- (شوف) أنا لا أدعي بأن حزب البعث العربي الاشتراكي أقام في العراق تجربة ديمقراطية، أو نظاماً ديمقراطياً كالذي نسعى لإقامته في السودان.. لا أدعي ذلك، لأن واقع (العراق) يختلف تماماً عن واقع السودان.. هناك خصوصية في العراق، ولكن حزب البعث كان حريصاً جداً على مشاركة فعلية من كل القوى السياسية، ويمكنك أن ترجع إلى كتيب (خندق الخندقان) للقائد الشهيد "صدام حسين" لتدرك فعلاً أن الحزب كان يطالب كل القوى السياسية بأن تطرح أيدلوجيتها وبرامجها أمام الشعب العراقي، سواء أرادت المشاركة في السلطة أو خارجها، وقد وفر لهذه الأحزاب مقرات وصحفاً ومجلات تمولها الدولة، بمخصصات تمولها الدولة للأحزاب لرعايتها للقيام بأنشطتها، ولكنه في الوقت ذاته وفي فترة العدوان الإيراني على العراق الذي استمر لـ(8) أعوام، كان يواجه أمثال (حزب الدعوة) وغيره من الأحزاب المرتبطة بإيران..
مقاطعة: صحيح أن حزب (الدعوة) هو حزب (شيعي) وتقوم أيدلوجيته على ذلك، إلا أنه حزب عراقي في النهاية وبالتالي من حقه أن يمارس نشاطه؟
- المشكلة ليست في أن حزب الدعوة هو حزب شيعي أو خلافه، فحزب البعث العربي الاشتراكي كانت قاعدته وبل حتى قيادته كان أكثرية أعضاء القيادة من الشيعة في العراق، القضية ليست شيعة أو سنة، فحزب الدعوة لم يكن حزباً عراقياً، بل حزباً إيرانياً ينفذ مخططات إيران، وهو موجود في الحكم.
مقاطعة: ولكنه حزب له كامل الحقوق في ممارسة عمله السياسي؟
- حزب الدعوة موجود الآن في السلطة، ويحكم المالكي والجعفري وغيرهم، والواقع الآن في العراق يشهد على مقولات البعث إن كانت صحيحة أو خاطئة، هل هؤلاء الحكام هم عراقيون؟ هل يحكمون العراق أم يخدمون أجندة أمريكا وإيران في العراق، هل كان ينبغي لحزب...البعث أن يتحالف مع هذه القوى المتخلفة؟، هذه القوى المرتبطة بالخارج.
ظهر نائب الرئيس العراقي السابق عزت الدوري عبر تسجيل بإحدى الفضائيات بالتزامن مع التظاهرات الاحتجاجية الأخيرة ضد حكومة المالكي البعض يشير لدول خليجية تقف وراء كل ذلك هل الأمر بهذا الشكل في ظل واقع سقوط البعث؟
- نظام البعث لم يسقط، دخلت القوات الأمريكية واحتلت العراق، ولكن ظهور القائد المجاهد عزت إبراهيم الدوري كان تحدياً لقانون بول بريمر وهو قانون أمريكي لاجتثاث البعث، وهو مخطط أمريكي - إيراني فاشل لاجتثاث البعث، وقد جاءت انتفاضة الشعب العراقي وهذه ليست الانتفاضة الأولي، بل هي امتداد لانتفاضات أخرى داخل العراق، وهذه الانتفاضة صمدت لأسابيع كثيرة، وتكمل شهرها الثاني، تضمنت مطالب الشعب العراقي وعلى رأسها إلغاء قانون اجتثاث البعث لأن البعث عصي على الاجتثاث، ويمثل قاعدة عريضة جداً داخل الشعب العراقي، وتوجد استحالة في اجتثاثه، ناهيك عن أن كل القوى التي حاولت اجتثاث الفكر في كل بلدان العالم باءت محاولاتها بالفشل.
قرأت إحصائية تقول إن منسوبي حزب البعث في العراق يبلغون (5) ملايين عضو هل هذه النسبة صحيح؟
- عندما تكون في السلطة يتدافع الناس حولك، ولا تدري البعثي الأصيل من غير ذلك، ولكن أعتقد أنها إحصائية صحيحة إلى حد كبير، لأن البعث كان ولا يزال هو الحل للعراق، ناهيك عن كونه الحل للأمة العربية كلها، ولكن في العراق إما البعث وإما الاصطفافات الطائفية والجهوية وغيرها، لا يوجد في العراق إلى اليوم حزب وطني قادر على توحيد أو التعبير عن وحدة الشعب العراقي عدا حزب البعث الذي تمتد تنظيماته من زاخو إلى البصرة.
المشهد العراقي ربما أضحى ينحو إلى الاصطفاف الطائفي هل ذلك صحيح؟
- الطائفية ليست عميقة الجذور في العراق، صحيح أن هنالك سنة وشيعة منذ قديم الزمان، ولكن الشعب العراقي ليس شعباً طائفياً، الطائفية تعبر عنها نخب جاءت على ظهر الدبابة الأمريكية والإيرانية، ولا تعبر عن الشعب العراقي، وأنت تلاحظ في هذه الانتفاضة رفض الجماهير الواسعة للتصنيفات الطائفية السنية والشيعية، وترى الشعارات التي تتحدث عن أننا جميعاً سنة وشيعة هذا العراق ما نبيعه، إلى آخره، فشعب العراق شعب موحد ترفض نساؤه ورجاله وأطفاله التفتيت الطائفي الذي سعت إليه الإمبريالية الأمريكية ومن ورائها إيران وقننته بالدستور الذي وضعه بول بريمر، فهذا الدستور لم يضعه الشعب العراقي، وإلى جانب ذلك هل تعتقد أنه يمكن أن يكون لإيران نفوذ في العراق بدون إثارة النعرات الطائفية؟، ايران تستقوي بالطائفية، ولكن حتى الشيعة العراقيين، لا يقبلون بوصاية إيران عليهم.
البعض يحمل حزب البعث مسؤولية ما حدث للعراق مع أن دولته كانت إضافة لقوة الأمة العربية بماذا ترد؟
صحيح العراق كان بهذه المواصفات ولكن كان بها نتيجة لقيادة حزب البعث العراق، فكيف نتحمل نحن نتيجة ما حدث؟
|
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق