بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
|
الحركات والأحزاب (الإسلامية) في الوطن العربي
(بين الفقه الديني الإطلاقي والفقه السياسي الديمقراطي)
|
شبكة البصرة
|
د. أبا الحكم |
المقدمة :
منذ منتصف الستينيات وأواخرها من القرن المنصرم، لا أحد يتوقع أن تظهر على ساحات الوطن العربي على وجه الخصوص حركات (دينية) و(إسلاموية) تمارس فعل السياسة بكل تفاصيلها وأساليب عملها، وتتربع قمة الحراك الشعبي العارم، وهي تقود فئات وشرائح اجتماعية مختلفة تتبنى مطالبها المشروعة وتؤسس لها أعمالاً اجتماعية خيرية توسع من دائرة مؤيديها وحلفائها (كالمصارف والجمعيات الخيرية والمستشفيات والمستوصفات، فضلاً عن جمعيات النفع العام)، الأمر الذي مَكَنَ هذه الحركات من أن تتسيد الحراك الشعبي أمام ضعف وتفكك الأحزاب السياسية القومية واليسارية والليبرالية الأخرى.
والتساؤل هنا :
1- ما هي العوامل التي ساعدت على نشأة وظهور هذه الحركات في الوطن العربي؟
2- كيف نمت وترعرعت هذه الحركات ونجحت في تعبئة البيئة العربية بهذا الزخم؟
3- ما هي منطلقاتها الفكرية وسياساتها، وهل استطاعت هذه الحركات (التوفيق) بين الإسلام كأيديولوجية - دينية وبين السياسة كمنهج واقعي وتطبيقي في الداخل والخارج؟!
4- ثم ما هو مستقبل هذه الحركات حيال الواقع التطبيقي على الأرض؟!
وقبل الإجابة على هذه التساؤلات يتوجب تصنيف هذه الحركات :
· حركة تتمسك بالخط الفكري التنويري.
· حركة تسير في الخط الإصلاحي.
· حركة تتمسك بخط الجهاد.
· حركة تسير على الخط الرسمي الحكومي.
هنالك تصنيف آخر يقوم على :
· الملتزمون من العامة بالخط الإسلامي دون الانخراط بتنظيمات الحركات الإسلامية.
· المفكرون والباحثون الإسلاميون غير المنتظمين في تنظيمات الحركات الإسلامية.
· الحركات الإسلاموية ومنهم (الأخوان المسلمين).
· الوسط الشبابي والشعبي الرافض للواقع العربي المتردي سياسياً واقتصادياً واجتماعياً.
وهنالك تصنيف آخر في صيغة تيارات :
· التيار التقليدي العام.
· التيار المذهبي ممثلاً بـ (حزب الدعوة- حزب الله- حزب العمل- جند الإمام) وهي أحزاب تنضوي في التيار الإيراني.
· التيار الأيديولوجي ممثلاً بـ (حماس- الإنقاذ الجزائرية- الجهاد في مصر).
· تيار الرفض ممثلاً بـ (التكفير والهجرة- جماعة السيف- الجهاد- جند الله).
· التيار العقلاني الذي يعتمد المنهج النقدي التحليلي.
الحركات الإسلامية التي بدلت أسمائها :
· الجماعة الإسلامية في المغرب/حركة التجديد الوطني.
· الجماعة الإسلامية في الجزائر/حركة النهضة.
· حركة الاتجاه الإسلامي في تونس/حركة النهضة.
· الإخوان المسلمين في الأردن/جبهة العمل الإسلامي.
· جماعة الأخوان المسلمين في مصر/حركة العدل.
ومن كل هذه التصنيفات التي اجتهد بها البعض يرى آخرون أنه يمكن الركون نحو صنفان من هذه التيارات :
· التيارات (الوسطية) ذات الاتجاه المعتدل والتي تعتمد المنهج (السلمي- الدعوي).
· الحركات المتطرفة أو الجهادية التي تعتمد على منهج الجهاد للوصول إلى الحكم.
وقبل الإجابة على التساؤلات آنفة الذكر، ينبغي التوقف عند المسببات الأساسية لبروز هذه الحركات في الوطن العربي :
أولاً- إخفاق التطبيق العملي للأيديولوجية العربية.
ثانياً- غياب المشروع القومي العربي.
ثالثاً- بروز وتنوع أطروحات الحركات والأحزاب اليسارية باتجاهاتها المختلفة وإخفاق تطبيقاتها، والتي تشكل عامل تحدي للفكر الإسلامي في أطروحاتها السياسية والفكرية على امتداد عقود منذ خمسينيات القرن المنصرم.
رابعاً- ظهور تيارات ليبرالية متحدية ومستفزة للبيئة الإسلامية.
خامساً- استمرار تداعيات هزيمة حزيران عام 1967، على الرغم من الإضاءة القومية التي جسدتها ثورة السابع عشر- الثلاثين من تموز عام 1968.
سادساً- غياب حل عادل للقضية الفلسطينية.
سابعاً- غياب الحريات الديمقراطية.
ثامناً- اتساع نطاق انتهاكات حقوق الإنسان في الوطن العربي.
تاسعاً- اتساع دائرة القمع السلطوي، وازدياد الفوارق الطبقية، ومعدلات الفقر والبطالة والتهميش.
عاشراً- تفاقم الأزمة الاقتصادية في الوطن العربي والعالم، وانهيار مشروع التنمية الاشتراكية على وجه الخصوص.. هذه الأزمة عمقت التفاوت بين الطبقات الاجتماعية، في ظل الفساد المالي والإداري المستشري، وعجز الأنظمة عن إيجاد الحلول لهذه الأزمة.. الأمر الذي دفع شرائح واسعة من الشعب العربي والإسلامي تتجه، نتيجة لحالة اليأس والإحباط، صوب أنماط من شأنها البحث عن حلول، حتى وإن كانت حلولاً غيبية لمشاكلها الاجتماعية المتأزمة (لقد فقدت الجماهير إيمانها بالحلول العملية المادية، فاتجهت إلى الإيمان بالحلول، التي تطرحها الحركات الإسلاموية، التي ترفع شعار (الإسلام هو الحل)!!
بيئة التعبئة للحركات الإسلامية :
في ظل هذه الأجواء، التي ترتكز على (استقطاب) واضح كان قد أفرز أربعة اتجاهات أساسية :
الأول- الاتجاه القومي العام الذي يقارع الاستعمار ونظمه وسلطاته الرجعية القمعية، ولديه مشروعه الوطني والقومي، ممثلاً بحزب البعث العربي الاشتراكي.
الثاني- الاتجاه اليساري ممثلاً بالأحزاب الشيوعية العربية.
الثالث- الاتجاه الليبرالي ممثلاً بالنخب الثقافية والطبقية التي تؤسس للغرب مواقعه في مرافق الحياة السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية.. إلخ فضلاً عن البرجوازيين الكبار والإقطاع والذين يمسكون بالرساميل والتجارة، فضلاً عن الرجعية العربية الموالية للاستعمار.
الرابع- الحركات الإسلاموية، التي لم تتبلور اتجاهاتها السياسية، وبعضها كان يحاول أن يُكَوَنَ حركة (قطرية) إسلامية تهتم وتعالج أوضاع مجتمعها في ساحاتها العربية.. ولكن (منطلقاتها) الفكرية - الفقهية جعلتها ترتبط بالتيار الإسلامي (الأممي) متمثلاً بالإخوان المسلمين، الذين يعتمدون خطاباً مزدوجاً من جهة، وإزدواجية قيادية تنظيمية (سرية وعلنية) في آن واحد من جهة ثانية!!
ولما كانت البيئة العربية هي بيئة إسلامية، فقد كان لرجل الدين تأثيره الروحي كبيراً أكثر من تأثير رجل العلوم الأخرى وغيره..إلخ، لأن النص الذي يستخدمه عالِمُ الدين هو نص (مقدسٌ) لا اجتهاد فيه، أما نصوص العلوم الأخرى فهي خاضعة لمعايير المنطق العقلي، واحتمالات القبول والرفض والخطأ والصواب والتعديل!!
ومن هذا يمكن وضع مؤشرين :
الأول- أن العامل الروحي يعد أكثر تأثيراً من غيره في بعض الحالات.
الثاني- الإسلاميون يؤمنون بمنطق الإطلاق والقوانين النهائية، وإن الحقيقة واحدة.. في حين أن الحقيقة الاجتماعية متنوعة ومختلفة ومتناقضة في مكوناتها وصيرورتها وانتمائها القومي ودياناتها.
نعود إلى البيئة التي مكنت الحركات الإسلاموية من البروز : حيث تعمل هذه الحركات وفي خطابها على وفق تصنيف المجتمع إلى فئات وشرائح تقع في مقدمتها :
- الطبقة الوسطى.
- قطاع الطلبة (الجامعات والمعاهد والمدارس).
- المهمشون.
- العاطلون عن العمل.
أولاً- الطبقة الوسطى : تتشكل هذه الطبقة، كما هو معروف، من فئات اجتماعية مهنية متعددة ومتنوعة (صغار ومتوسطي التجار والمهنيين)، وتعد مصدراً تمويلياً مهماً للكثير من الحركات الإسلاميةـ اعتقاداً من هذه الفئات بأن هذه الحركات تناضل ضد قوى الاستعمار والنظم الحاكمة المتسلطة من أجل تحقيق مصالح عموم الشعب ومطالبه المشروعة، ولكن الإشكالية تكمن في انعدام منهج التنمية وبناء الدولة بناءً عصرياً تأخذ أبعاده التكاملية مسارها الطبيعي مع الوحدات السياسية العربية.
ثانياً- المهمشون : وهم طبقات دنيا مختلفة لديها القدرة على استخدام العنف والفوضى، نظراً لمخزونها من الضغينة والكبت والرغبة في الانتقام.. تزداد فعالياتها عند :
1- اختلال الأمن العام وحدوث الفراغ السياسي المركزي.
2- حدوث حالة الاضطراب السياسي والاقتصادي.
3- انعدام قدرة النخب السياسية على تنفيذ برامجها، وخاصة الإبطاء الذي يحصل في فعالياتها الإنتاجية وسوء الإدارة وتردي الأوضاع العامة.
4- وحين يختل التوازن، تتسلق عناصر ذات صفات لا تؤهلها لكي تحتل مواقع عليا وأخرى داخل السلطة.. فهي بهذه الصفات تعمل على تعطيل الحركة النظامية على مستويات السياسة والأمن والاقتصاد والاجتماع، وبصيغ الخرق الذي قد يكون متعمداً.
ثالثاً- البطالة : إن تزايد معدلات البطالة له دلالات تؤكد الخلل في النظام الاقتصادي والاجتماعي للدولة، وفشل برامج النظام السياسي وجدواها في التنمية الشاملة، الأمر الذي يبعث على التأكيد بأن النظام السياسي يتسم بالهشاشة وعدم القدرة على إرساء دعائم الأمن والاستقرار.. والخلاصة في هذا الأمر.. تشكل البطالة مصدراً مهماً يزود التيارات أو الحركات الإسلامية و الإسلاموية الأشد تطرفاً، بدواعي العنف.
هذه العوامل مجتمعة ساعدت على نجاح الحركات (الإسلامية) في الاستقطاب والعمل السياسي والاجتماعي بحيث :
- مكنت "حماس" من اجتياح الانتخابات الفلسطينية.
- ومكنت "الأخوان المسلمين" من أن يجدوا لهم مكاناً في البرلمان والشارع المصري ومن ثم إلى الرئاسة.
- وباتت حركة النهضة، وهي "حركة الأخوان المسلمين" تتمتع بحرية الحركة والتأثير في تونس.
- فيما باتت الحركة الإسلامية في الجزائر تتمتع بالحرية، وفي ليبيا تتربع قمة الهرم السياسي، أما في الأردن فقد عززت مواقعها في إطار حركة الدولة، بينما أخذت الحركة الإسلامية في المغرب مكانتها في البرلمان، وفي الشارع المغربي على اتساعه.
- وفي العراق تحالف الأمريكيون المحتلون مع الإسلاميين الطائفيين بالضد من المقاومة الوطنية والقومية والإسلامية المناهضة للاحتلال.
والتساؤل المركزي هنا... لماذا تسلقت الحركات (الإسلاموية)، وبلغت شوطاً مؤثراً في عمليات التغيير البنيوي في معظم الساحات العربية، في وقت واحد وتنسيق واحد في الداخل والخارج؟!
وعلى الرغم من النجاحات التي حققتها هذه الحركات في أكثر من ساحة عربية في ظل الموجه العارمة التي يسمونها بـ(الربيع العربي)، وهي التسمية التي تتسيد فيها مخططات الإمبريالية الأمريكية والصهيونية لتفكيك المنطقة العربية وتغيير خرائطها السياسية.. فهل أن أطروحات هذه الحركات تخلو من إشكاليات في الفقه الديني والفقه السياسي، وفي ما إذا ستستمر في نجاحاتها؟!
ومن أجل الوقوف على الأرضية الرصينة، التي من شأنها التعامل مع هذه الحركات لا بد من معرفة حدود هذه الإشكاليات وطبيعتها، وفي ما إذا كانت ستستقيم في عمل سياسي مع القوى القومية التي تؤسس لمفهوم الدولة الوطنية، يرتكز على المشتركات التي من شأنها أن تؤجل التناقضات حسب المنطق العلمي في التعامل؟!
حدود الإشكالية :
- الحركة الإسلاموية - التي يحلم الغرب بتحويلها إلى نموذج تركي في الوطن العربي- لم تستطع أن تغادر إيمانها بـ(المطلقات) النصية، كما أنها لم تستطع، بناءً على هذا الرأي، أن تبتعد عن أسلوب خطابها (الاطلاقي) الموجه إلى تلك الفئات و(الطبقات الوسطى) و (وفئات الشباب) إلا تكتيكياً.
- الحركات الإسلاموية، وهي تمارس السياسة في المجتمع المدني، وتتبنى مطالب الجماهير في إطار توجهها الديني، تضع نفسها فوق العروبة والقومية العربية وترى ((إن الإسلام هو الأساس منهجاً قيمياً يتشكل على أساسه المجتمع الإسلامي))، وبهذا المنطق يغيب دور العرب في رفع راية الإسلام والرسالة المحمدية إلى أنحاء الأرض!!
والملاحظ في هذا المعنى : أن تأثير الحركات الإسلاموية في المجتمع العربي يبدو على الأمد البعيد محدوداً تبعاً للأمور التالية :
الأول - ويتمثل بضرورة وأهمية فصل الدين عن الدولة في عصر يصعب فيه ظهور دولة (دينية) مدعومة اجتماعياً تمارس السياسة داخلياً وخارجياً.
الثاني - تبعية الحركات الإسلاموية - السياسية لمشاريع استعمارية، ما تزال مجتمعاتنا العربية والإسلامية تعاني من استعبادها وبطشها واستنزافها، على الرغم من ظهور الاستعمار الجديد تحت يافطات (الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان وحماية المواطنين والأقليات.. إلخ).
الثالث - يصعب على الحركات الإسلاموية - السياسية أن تُكَوِنْ تنظيمات سياسية مدنية تخدم قواعد العمل السياسي المعروفة في إطار الديمقراطية الحقيقية.
مؤشرات حدود الإشكالية :
ظهرت حركة الأخوان المسلمين في مصر عام 1928 بزعامة (حسن البنا) كجمعية دينية صرفة ذات اهتمامات خيرية، ازدهرت الحركة في الأربعينيات من القرن المنصرم، وانتهت بصدام عنيف عام 1952 في إثر قيام الثورة في مصر بزعامة جمال عبد الناصر.
والتساؤل هنا... لماذا اصطدمت حركة الآخوان المسلمين بالثورة الوطنية المصرية عام 1952؟!، ولماذا ساندت الحركة عبد الناصر في تصفية الأحزاب المصرية؟!، ولماذا حاولت اغتيال الرئيس جمال عبد الناصر، الذي كان يمثل رمز التحرر العربي؟!
1- حركة الأخوان المسلمين ترفض التعددية الحزبية، ولا تسمح بوجود الأحزاب إلا خلال مرحلة انتقالية محددة.. وإن التعددية والديمقراطية ليستا هدفان استراتيجيان في مشروعها المجتمعي، بل اختياراً تكتيكياً يمكنها من الوصول إلى الحكم فقط.. حيث قرار الحكم المطلق!!
2- الحركة الإسلاموية – السياسية تعتبر نفسها (جمعية) وليست (حزباً) في الوقت الذي يمثل هيكلها التنظيمي وأيديولوجيتها وأسلوب عملها في الحركة والتعبئة، حزباً له قيادات معروفة تتشكل على أساس قيادة علنية وقيادة للعمل (السري)!!
3- الحركة تحارب التيارات والأحزاب الرافضة لإقامة الدولة الإسلامية.
4- تكفر الحركة الإسلاموية كل ما هو قائم وتعتبره نتاج الجاهلية الحديثة!!
5- الحركة الإسلاموية تنادي – وحسب معطيات الظروف- بالدولة الدينية.
6- الحركة الإسلاموية لديها أيديولوجية دينية تعمل بالسياسة.
ويتضح من ذلك :
- إن الحركة الإسلاموية، وهي تتبنى (أيديولوجية- دينية) تعمل في السياسة كحالة تكتيكية تخالف منطلقاتها الإستراتيجية.
- حزب البعث العربي الاشتراكي لديه أيديولوجيا وطنية قومية، ونظرته للدين الإسلامي نظرة تقع في متلازمة جوهرية لا انفصال فيها بين العروبة والإسلام، باعتبارهما (روح وجسد) يصعب فك عراهما.. السياسة لها مجراها وقواعد عملها ومنطلقاتها الفكرية والنظرية، أما الدين فله مجراه ونصوصه المقدسة ومصادره ومعاييره وشريعته السمحة، الأمر الذي يجعل الفصل بين السياسة (الدولة) والدين، بين مؤسسة الدولة والمؤسسة الدينية مسألة تبعد تسييس الدين، كما تبعد فرض المطلقات في السياسة، التي من أهم شئونها تصريف القرارات العامة بدون مطلقات، إنما تسترشد بروح النصوص المقدسة في التشريع والأحكام.
السياسة والدين :
لم تستطع السياسة أن تتجاهل مسألة الدين, ولا تتغاضى عن الحركات السياسية الدينية.. وعلى السياسة أن تضع ما يمكنها من إيجاد آليات جديدة للتعامل وإتقان عملية التكامل مع تلك الحركات، ليس على أساس (الفقه الديني)، إنما على أساس (الفقه السياسي)، ومن زواياه المختلفة، وإيجاد القواسم المشتركة لكيفية التعامل مع الواقع وحركته صوب الاستقرار والبناء والتنمية.
هنالك خيوط ترابط بين السياسة والدين، وهذه الخيوط قاسمها المشترك هو (الواقع السوسيولوجي والاقتصادي والثقافي والحضاري، فضلاً عن منظومة القيم العربية-الإسلامية)، فهل تستطيع السياسة أن تفك التشابك الحاصل بينها وبين هذا الواقع؟ وهل يستطيع الدين أن يكون بمنأى عن هذا الواقع؟!
كليهما لا يستطيع أن ينفصل عن الواقع، وإن أياً منهما لا يستطيع لوحده أن يتعامل مع الواقع ويعمل على تغييره.. إلا أنهما يستطيعان العمل معاً على وفق منهج (سياسي- قيمي- ديني)، بمعنى أن الفقه السياسي والفقه الديني ضرورة موضوعية للواقع العربي لإنتاج وحدة تشريع وآلية عمل، ليس على مستوى الشعب العربي في القطر الواحد، إنما على مستوى الشعب في عموم الوطن العربي.. وذلك انطلاقاً من قاعدة تشير إلى أن حقيقة الواقع لا تستطيع أن تغفل الجانب المادي في المنهج السياسي للحياة العامة. وعلى هذا الأساس، فأن الدين يشكل الوجدان العام للمجتمع العربي وقيمه، وهو مجتمع وسطي معتدل يرفض بطبيعته التطرف.
فغياب الحريات السياسية يؤدي إلى استثمار الدين في البحث عن بديل، والمدرك الجوهري : هو أن الإسلام عقيدة وثقافة وحضارة، أما الحركات الإسلاموية فهي : حركات سياسية تقدم نفسها إلى المجتمع بوصفها تيارات سياسية، وليست (مَجْمَعَاً) أو (مدرسة) للفقه الديني. وخطورة الأمر تكمن في تحريف منهج الإسلام عن طريق التزمت والتعصب والتطرف والتكفير في ممارسات واحتكام يدفع بتحويله من عقيدة جامعة للأمة إلى أيديولوجيا سياسية، لفريق منها، يعمل على تفريقها وتمزيقها.. وهذا ما يرفضه الإسلام جملة وتفصيلاً.. ولا ينكر أن الإسلام قد أضاف إلى العمل القومي بعداً روحياً استطاع استنهاض طاقات الأمة.
رجل السياسة يصدر قرارات قد تخضع للتعديل أو الإلغاء وقد يناور ويراوغ في بعض الحالات إذا اقتضت ضرورات العمل السياسي لا المبدئي، ويعمل على تجزئة الفعل إلى صفحات قد يتنصل فعلها عن أهدافه في التفريق بين ما هو واضح أو غامض من الأمور وقد يأخذ بازدواجية التعامل.
أما رجل الدين فلا يصدر قرارات، وإذا أصدرها فهي سياسية- دينية، فهو ملتزم بنصوص هي في طبيعتها مقدسة مثل (القرآن الكريم)، ولا يستطيع أن يجتهد في النص، والنص في طبيعته غير قابل للاجتهاد والتأويل.. فكيف يمكن إزاء هذه الحالة أن يتعامل رجل الدين بقرارات سياسية؟!
- من الحقائق، أن النصوص الدينية لم ترسم شكلاً للنظام السياسي.. ومرجعية ذلك (التجربة النبوية الشريفة في دولة المدينة، وكذلك تجربة الخلافة الراشدة في ما بعد) ودولة المدينة لم تقم على أسس دينية بأي من المعاني التي ينطبق عليها مفهوم (الدولة الدينية)، إنما هي دولة مدينة تأخذ بنظر الاعتبار تصريف شؤونها (السياسية) مع غيرها من الوحدات السياسية الأخرى، فضلاً عن تصريف شؤون الناس.. فكيف توضع المعايير حيال الشعب بكل طوائفه وشرائحه وقومياته ودياناته؟!، وكيف يتم تطبيق المنهج في واقع يتوزع على ديانات وقوميات ونحل؟! هل عن طريق الفقه الديني، أم عن طريق الفقه السياسي؟!
- إن مفهوم الدولة الإسلامية يختلف عن مفهوم الدولة الديمقراطية، فالدولة الإسلامية تعتبر كل قوانينها سماوية التشريع وبالتالي ليس للبشر حق المشاركة في صنع هذه القوانين، لأن ذلك يعد من ضروب الشرك والكفر وإنكار لمشيئة الله.
- فالحركات الإسلاموية.. وبحكم طبيعتها لا تقبل التعايش مع نقائضها حتى وإن حاولت (شكلياً) قبول ذلك، لأنها :
1- ترفض العلمانية.
2- ترفض القومية العربية.
3- تعمل بالتصور الشمولي للإسلام.
4- ترفض مبدأ الانفتاح.
5- إن هاجس الأمن يسيطر على قاعدة الحركة.
فهي بذلك تطرح نفسها كبديل عن نظام الحكم القائم، الأمر الذي يدخل الحركة في مواجهة مفتوحة مع السلطة.
الخلاصة :
عرفت المنطقة العربية في السنوات الأخيرة، أطروحات فكرية وسياسية حادة ومكثفة تناولت علاقة الدين بالسياسة.. هنالك اتجاه يرى إمكانية الدمج بينهما، واتجاه آخر يرفض هذه المزاوجة.. فيما باتت دساتير عربية تحذر من تأسيس أحزاب على أسس دينية.. واتجاه آخر يرفض الربط بين الدين والسياسة لضرورات وأحكام تتعلق بتعارض منهج الفقه السياسي من جهة، ومنهج الفقه الديني ونصوصه المقدسة من جهة أخرى.. بعض الدول العربية اختارت التعايش السلمي مع الحركات الإسلامية، والبعض الآخر فضل منطق الإقصاء والتهميش والمواجهة.
- الغرب بدأ يدرك أن الانفتاح على الحركات الإسلاموية أو ما يسمى بـ(الوسطية) مفيد ضد الحركات الجهادية، تحت إستراتيجي " خلق النقائض" في المكونات الهيكلية والفكرية للحركات والأحزاب، حتى والفئات والشرائح القومية المتعايشة في المجتمع.
- الأنظمة السياسية أدركت أن منع الحركات الإسلاموية سيتحول إلى خسارة إستراتيجية على الأمد البعيد.
- الحركات الإسلاموية تعمل بإستراتيجية (تكتيكية) مرحلية ريثما تمسك بالسلطة.
- الحركات السياسية الجهادية أدركت أن تفويض الدولة من لدن الغرب أمر متعذر وباهظ الثمن!!
- إن ضغط الغرب على النظم السياسية العربية بعد الحادي عشر من سبتمبر- أيلول 2001 جعل الحركات الإسلاموية في بعض الدول العربية (المغرب والأردن) على سبيل المثال تقبلان بالديمقراطية المطروحة وبالتعددية السياسية، ولكن في إطار (مرجعية إسلامية) يكتنفها الغموض.. فيما كانت حركة الأخوان المسلمين في مصر قد دعت إلى الديمقراطية والتعددية في إطار (تكتيكي) وليس (إستراتيجي)، بدليل امتناعها عن الإقرار بحقوق الأقليات، وإن من أولويات رئاسة الجمهورية في مصر قيادة الشعب والدولة المصرية من على منابر خطب الجمعة في المساجد!!.. أما الحركة الإسلاموية في الكويت فقد عملت على حرمان المرأة من التصويت استناداً إلى تفسير الحركة للشريعة الإسلامية!!
- لا ينكر أن الإسلام قد أضاف إلى العمل القومي السياسي بعداً روحياً استطاع أن يستنهض طاقات الأمة، على أساس العلاقة الموضوعية القائمة بين العروبة والإسلام باعتبار العرب حاضنة للرسالة الإسلامية السمحة.
- إن موضوع الدولة العلمانية، وموضوع تطبيق الشريعة الإسلامية هو في حقيقته سياسي وصراع من أجل الإمساك بالسلطة السياسية وليس خلافاً فكرياً أو فلسفياً.. فلا يجب استنزاف وعي الجماهير في مشكلات لا تمارسها إلا السياسة، وإن يتم تجنب الفتنة والانشقاق أو الفرز الفكري بين الجماهير.
- ومن الحقائق أن النصوص الدينية لم ترسم شكلاً للنظام السياسي..ومرجعية تلك (التجربة النبوية الشريفة في دولة المدينة التي لم تقم على أسس دينية بأي من المعاني).
الحكم في الإسلام هو :
· حكم ثيوقراطي.
· ولا يعتبر ولآية فقيه.
· ولا يوجد فيه إمام معصوم (حيث تتم محاسبة ولي الأمر أو المسئول كسواه من العامة وقد يعزل أيضاً!! [.... فإذا وجدتم فيَ اعوجاج فقوموني بسيوفكم....].
بعض الحركات (الإسلامية) قد بدأت منذ الثمانينيات تتشرب بالفكر الديمقراطي ووسائل النضال السلمي وتبتعد عن حدود الفكر المطلق قليلاً، واقتربت من الواقعية والروح العملية،ولكن يجب أن لا ننسى أن ذلك يتم في إطار التكتيك وليس خياراً إستراتيجياً.
هذا المدخل يمهد الاقتراب من الحركات الإسلامية ذات الاتجاه الواقعي العملي، وخاصة التي تؤمن بالتعددية والديمقراطية والانفتاح (حتى وإن كانت هذه الروحية تكتيكية- وهي كذلك- من أجل العمل السياسي الذي يستند على :
أولاً- المشتركات.
ثانياً- الثوابت الوطنية.
ثالثاً- عدم فصل العروبة عن الإسلام.
- المشتركات، يمكن تحديدها في إطار توافق عمل أو حوارات عملية وواقعية.
- الثوابت الوطنية.. هي ثوابت معروفة لا أحد يستطيع تجاوزها في حدود الوطنية.
- عدم فصل العروبة عن الإسلام، تلك مسألة ثابتة وعضوية، فالأحزاب والحركات العربية، التي تؤمن بالعروبة وبالإسلام الحنيف وبالتشريع الإسلامي كمنهج، والتي ترفض أي صيغة من شأنها فصل العروبة عن الإسلام.. حتى التي لديها وجهات نظر في مسألة نظام الدولة المدنية الحديثة ومسألة الحكم المدني، فأن ذلك لا علاقة له بالدين من حيث الدمج غير الموضوعي، ولا غبار في أن يكون الدين الإسلامي، أحد أهم مصادر التشريع في الدولة المدنية.
معيار التعامل مع الحركات (الإسلامية) في الوطن العربي على أساس الفرز الموضوعي :
هل أن الحركات (الإسلامية) بشكل عام في الوطن العربي، هي حركات وطنية أم ماذا؟!، فإذا كانت وطنية فعليها أن تلتزم بالثوابت الوطنية، وإذا كانت أممية عليها أيضاً أن تلتزم بالثوابت القومية، لأنها تعيش وتعمل في ساحة وطنية وشعب عربي يشكل الأمة العربية، وتتعايش معها أديان وقوميات مختلفة.. وهل هي تكوين (إسلامي- علماني) كما هو نموذج تركيا؟ أم إنها نموذج (طائفي) كما هو عليه الحكم في إيران؟، أم أنها تستمر في ازدواجيتها سالفة الذكر؟!
على أساس هذا الفرز يمكن النظر إلى هذه الحركات من أجل عزل القيادات التي ترتبط بمخططات الغرب عن قواعدها، وتفنيد أطروحاتها التي تتناقض مع أفعالها وأعمالها وارتباطاتها غير الوطنية وغير القومية، على الرغم من أن هذا الفرز قد قطع شوطاً مهماً في تعرية هذه الحركات، وهي تمثل أدوات للإمبريالية بغطاء الإسلام الحنيف وهو براء منها إلى يوم الدين.
إن صعود الإسلامويين السياسيين بصورة غير مباشرة وعبر صناديق الاقتراع غير النزيهة والمدعومة أمريكياً، وبتوقيت يكاد أن يكون واحداً على الساحة العربية، ليس مصادفة أبداً، إنما هم من أدوات مشروع الشرق الأوسط الجديد، التي يتطلع إليها كل من المشروع الإقليمي (الفارسي والعثماني والإسرائيلي) في غياب المشروع القومي العربي.. والهدف هو إعادة صياغة معادلة الصراع في المنطقة على أرضية تعني (بخلق النقائض) في المكونات الدينية والعرقية، وتفعيل الصراعات الدينية والقومية ومنع أي مشروع (عربي- إسلامي)، من شأنه أن يشكل منطلقاً للأمة العربية، يتأسس على مفهوم النهضة العربية- الإسلامية المعاصرة.
2/أب/2012
|
شبكة البصرة
|
الخميس 14 رمضان 1433 / 2 آب 2012
|
قال سبحانه وتعالى
قال سبحانه و تعالى
((ترى كثيراً منهم يتولون الذين كفروا لبئس ما قدًمت لهم أنفسُهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون * ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أُنزل إليه ما اتخذوهم أولياء ولكنً كثيراً منهم فاسقون))
صدق الله العظيم
الأحد، 5 أغسطس 2012
د. أبا الحكم: الحركات والأحزاب (الإسلامية) في الوطن العربي (بين الفقه الديني الإطلاقي والفقه السياسي الديمقراطي)
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق