فصل جديد من رواية "المجزرة الأميركية" مجزرة الاسحاقي
ستقرأون هنا، أعزائي، فصلاً جديداً مهماً من رواية "المجزرة الأميركية" المستمرة منذ احتلال العراق عام 2003، وقبلها في أيام الحصار الإجرامي الظالم.
فصل جديد عن مجزرة الاسحاقي التي حدثت في 15 مارس/ آذار 2006.
إقرأوها... وكان الله في عونكم...
وقبل أن تقرأوا اطلعوا على هذه الصور الخاصة بـ (وجهات نظر) بعث لي بها، في صباح الجريمة/ المجزرة، صحفي صديق، وأحتفظ بها منذ ذلك الحين، علماً انه يُمكن الاستفادة منها مع تثبيت المصدر.
ومن الضروري تسجيل حقيقة ان الصور أكثر من مؤلمة وبشعة، ومع ان نشرها قد يسبب إيلاماً لعوائل الضحايا، يرحمهم الله، ولبعض القراء، وأعترف انني أشعر بالغثيان الشديد والصداع الرهيب من جراء مشاهدتها، ومع ذلك فقد رأيت ان نشرها يوثق الحقيقة المؤلمة أكثر، ويعطي مزيداً من التوضيح عن حجم الكارثة التي ألحقها العدو الأميركي المجرم بالعراق وشعبه الصابر.
وقبل كل شيء، لابد من التنويه بجهود الصحفية العراقية المبدعة مياسة عبدالجبار التي أنجزت هذا التحقيق المهم وبجهود شبكة الصحافة الاستقصائية العربية (أريج) التي ساعدت على نشره وترويجه، لأنني، حقاً، لم أقرأ، منذ فترة طويلة، تحقيقاً صحفياً متكامل الأركان مثل هذا التحقيق في الصحافة العراقية، باستثناء ماقامت به السيدةعشتار العراقية من جهود معروفة في تحقيقاتها الاستقصائية المهمة.
ولايفوتني التنويه بجهود صديقي الصحفي، الذي زوَّدني بالصور/ الوثيقة، فله تقديري وشكري.
وقبل كل شيء، لابد من التنويه بجهود الصحفية العراقية المبدعة مياسة عبدالجبار التي أنجزت هذا التحقيق المهم وبجهود شبكة الصحافة الاستقصائية العربية (أريج) التي ساعدت على نشره وترويجه، لأنني، حقاً، لم أقرأ، منذ فترة طويلة، تحقيقاً صحفياً متكامل الأركان مثل هذا التحقيق في الصحافة العراقية، باستثناء ماقامت به السيدةعشتار العراقية من جهود معروفة في تحقيقاتها الاستقصائية المهمة.
ولايفوتني التنويه بجهود صديقي الصحفي، الذي زوَّدني بالصور/ الوثيقة، فله تقديري وشكري.
مصطفى
.........
حقائق جديدة تفرض إعادة التحقيق في «إعدام تعسفي» لـ11 عراقياً
بغداد - مياسة عبدالجبار
كما لو أنه يراها لأول مرة، انحنى الضابط السابق المقطوع الساق إبراهيم هراط، ليجمع ما تبقى من المظاريف الفارغة للرصاصات التي قتل بها جنود أميركيون قبل ستة أعوام ونصف، في هذا المنزل المدمر بالذات، تسعة من أفراد عائلته، بينهم خمسة أطفال أصغرهم لم يتجاوز عمره تسعة أشهر.
لم تكشف القوات الأميركية حينها، حقيقة ما جرى ليلة اقتحام منزل المعلم الابتدائي فائز هراط (28 عاماً)، وعلى رغم زعمها بأن الضحايا سقطوا نتيجة «لعملية تكتيكية» استهدفت اعتقال مسلح كويتي الجنسية يدعى أحمد عبدالله العتيبي، وقتل آخر عراقي الجنسية هو عدي فارس، إلا أن الدلائل التي جمعتها كاتبة التحقيق تثبت أن ما جرى لم يكن سوى جريمة «إعدام تعسفي».
فالمسلح العراقي المقتول وفق الادعاءات الأميركية، كان يومها معتقلاً في سجنها الشهير (بوكا)، ويقبع الآن في أحد السجون الحكومية بانتظار تنفيذ حكم الإعدام بحقه بعد إدانته بارتكاب أعمال عنف.
المسلح الآخر، الكويتي الجنسية، والذي تطلب اعتقاله قتل 11 مدنياً عراقياً، سلمته القوات الأميركية إلى الحكومة العراقية في تشرين الأول (أكتوبر) عام 2008، وقامت الأخيرة بتسليمه إلى بلاده في خريف عام 2010، ليستكمل حكماً بالسجن على خلفية قضية أمنية اتهم سابقاً بالضلوع فيها. وسط شكوك موثقة حصلت عليها كاتبة التحقيق بمساعدة مسؤول أمني رفيع المستوى تشير إلى أنه كان معتقلاً أصلاً لدى القوات الأميركية، قبل يوم واحد فقط من تنفيذ العملية.
لم يبق الآن من منزل فائز هراط الذي اقتحمته القوات الأميركية في الثانية من صباح يوم 15 آذار (مارس) 2006 سوى الجدار الذي أعدم بجواره الضحايا، مئات المظاريف الفارغة، وفي الزوايا، تناثرت قصاصات ورق محترقة الأطراف لآخر امتحان في اللغة الإنكليزية أجراه معلم المدرسة الابتدائية في منطقة الإسحاقي (100 كم إلى الشمال من العاصمة بغداد).
على عكس ما ذهبت إليه بيانات الجيش الأميركي، تؤكد تقارير الطب العدلي التي حصلت كاتبة التحقيق على نسخ منها من داخل مستشفى تكريت العام الذي نقل إليه الضحايا صبيحة المجزرة، أنهم قضوا جميعاً برصاصات أطلقت من مسافات قريبة على الرأس والصدر.
تقارير لجان التحقيق المحلية وشهادات العشرات من أهالي قرية الصفة التي وقعت فيها العملية، أكدت هي الأخرى أن الضحايا الذين انتشلوا من المنزل بعد ساعة من انتهاء العملية، كانوا مقيدي الأيدي، ومكممي الأفواه. والوثيقة السرية التي نشرها موقع ويكليكس في خريف العام الماضي، أعادت القضية إلى الواجهة مجدداً.
كان الهدف من الرسالة (الوثيقة) التي وجهها المقرر الخاص لشؤون الإعدام خارج القضاء والإعدام التعسفي، فيليب الستون، إلى وزارة الخارجية الأميركية بتاريخ 27 آذار 2006 هو إحاطة الوزارة مع العلم أن الحادث الذي تضمن «اقتحام المنزل وتكبيل 11 شخصاً من سكانه، بينهم أربع نساء وخمسة أطفال، وإعدامهم، قبل شن غارة جوية دمرت المنزل بالكامل».
تفاصيل ليلة الرعب
بدأت المجزرة كما يتذكر إبراهيم هراط، الأخ الأكبر لفائز، حين حلقت مجموعة من مروحيات «شينوك» في سماء القرية، ثم هبط بعضها ليترجل منها عشرات الجنود الذين انتشروا في محيط المنازل المتناثرة هنا وهناك، لمداهمتها منزلاً منزلاً.
لم يكن منزل إبراهيم يبعد عن منزل شقيقه فائز أكثر من 75 متراً، لذلك كان متاحاً له أن يرى من خلال نافذة منزله، الصورة المفجعة.
كان القمر ليلتها مكتملاً، والمروحيات المنخفضة كانت توجه أضواءها إلى محيط المنزل فتكشف كيف كان الجنود يتناوبون على إطلاق الرصاص باتجاه المنزل لمدة 15 دقيقة، ثم يبدأون عملية اقتحامه من مدخليه الخلفي والأمامي ليشرعوا بإطلاق الرصاص المتقطع داخله لأكثر من 20 دقيقة، قبل أن ينسحبوا منه تاركين لطائرات شينوك مهمة تدميره بالكامل، بستة صواريخ متلاحقة.
لم يعرف أحد حتى الآن ماذا جرى داخل منزل فائز هراط، وحين اقتحم الجنود الأميركيون منزل أخيه إبراهيم هراط بعد تدمير المنزل بوقت قصير، لاحقهم إبراهيم «مثل المجنون» ليعرف منهم ماذا فعلوا بأمه وعائلة أخيه الصغير فائز، لكن الإجابة التي تلقاها كانت عبارة عن «ركلة قوية» أطاحته جانباً، ودحرجت ساقه الصناعية على بعد أمتار منه.
البحث عن الضحايا
يتذكر عيسى هراط، وهو شقيق آخر للضحية فائز، أن ستة من الجنود الأميركيين داهموا منزله في تلك الليلة، واقتادوه مع أفراد عائلته إلى الحديقة وأجبروهم على الانبطاح أرضاً ووجوهم إلى أسفل.
لهذا السبب، كما يقول عيسى، لم يتمكن هو والكثير من سكان البيوت المجاورة لبيت أخيه فائز، من رؤية أي شيء. فقط كان صوت الرصاص يملأ المكان ومعه هدير المروحيات التي كانت تحوم حول بيوت القرية. واستغرقت عملية الهجوم على منزل فائز واقتحام منازل القرية ثم انسحاب القوات الأميركية، قرابة الساعتين كما يتذكر عيسى.
حين انتهى كل شيء وغابت أصوات المروحيات في البعيد، هرع الجميع إلى منزل فائز وهم يصرخون بأسماء الضحايا واحداً واحداً، لكن من دون جدوى.
يقول شقيق آخر من أشقاء فائز هو عبيد هراط، والذي كان يعمل ضابطاً في الجيش حتى سقوط النظام السابق، إن رحلة البحث عن الضحايا داخل المنزل لم تتطلب وقتاً طويلاً، فقد كانوا ممدين في الغرفة الوحيدة التي ظل جزء منها شاخصاً، تعلوهم أغطية وضعها الجنود الأميركيين عليهم قبل أن يرحلوا.
كان جميع الضحايا، كما يقول إخوة فائز وعدد من سكان القرية، موثوقي الأيدي من الخلف، باستثناء الرضيع حسام الذي كان مقيداً من الأمام.
يعتقد الخبير في الشؤون العسكرية والعميد المتقاعد ناطق جواد المعموري، أن وجود قيود في أيدي الصغار بعد تنفيذ عمليات من هذا النوع، يشير دائماً إلى أن شخصاً ما كان يتعرض للاستجواب من طريق التهديد بقتل أو تعذيب الطفل، وعلى الأغلب يكون المستجوب «والداً، أو والدة الطفل».
يتطابق ما ذكره الخبير المعموري، مع اعترافات أدلى بها الجندي الأميركي السابق جيسي ماكبيث في ربيع عام 2008، قال فيها إن الجيش الأميركي في العراق كان يتبع طريقة استجواب بشعة أثناء مداهمة بعض المنازل، إذ يقوم الجنود بالتهديد بقتل الطفل الأصغر أمام أنظار والديه لدفعهم إلى الاعتراف بما يريدونه، ثم يواصلون قتل طفل جديد كلما تطلب الأمر الحصول على المزيد من المعلومات.
هذا يبرر، كما يعتقد الخبير المعموري، تخلي الجنود الأميركين عن فكرة قتل إبراهيم هراط بعد أن تبين لهم أنه معوّق، فالقوات التي دخلت منزله لم تكن تريد سوى إرهاب سكان المنازل المحيطة بمنزل فائز، في الوقت ذاته الذي تقوم القوات المكلفة تنفيذ عمليات قتل مباشرة، بتنفيذ مهمتها.
لم يعرف عن فائز أنه انتمى إلى تنظيم مسلح، وعلى رغم وجود الكثير من عناصر تنظيم «القاعدة» وباقي المجاميع المسلحة في منطقة الإسحاقي. يشعر رئيس مؤسسة حمورابي لحقوق الإنسان التي وصلت إلى موقع الحادث في وقت مبكر من صباح يوم 15 آذار، بالأسف لضياع الكثير من عناصر إثبات عملية الإعدام بحق الضحايا، بسبب قيام الأهالي بفك القيود وإلقائها على الأرض أثناء استعدادهم لدفن الضحايا.
الدكتور عبدالرحمن المشهداني يقول إن العادات المحافظة لشيوخ العشائر الذين تجمعوا في المنزل بعد المجزرة، تسببت في منع أعضاء المنظمة من تصوير جثث الضحايا النساء اللواتي تم تكميم أفواههن في شكل عنيف بأغطية رؤوسهن (الحجاب). ويؤيد ما يقوله الدكتور المشهداني، المشاهد التي تضمنها شريط فيديو تحتفظ كاتبة التحقيق بنسخة منه يوثق عملية انتشال الضحايا من الركام ونقلهم إلى المشرحة، إذ كان عدد من الرجال يحاولون إبعاد المصور عن بعض جثث الضحايا وهم يصرخون به «حرمة، حرمة».
تقارير الطب العدلي
تشير تقارير الطب العدلي في مدينة تكريت إلى أن غالبية الضحايا تعرضت إلى إطلاق نار في الرأس والصدر، فيما مزق الرصاص أجساد ضحايا آخرين في مناطق مختلفة من أجسامهم. الخاصية التي تشارك فيها جميع الضحايا، هي أن أجسادهم كانت خالية تماماً من البارود، وهو ما يؤكد، كما يعتقد خبير جنائي مختص، بأنهم «لم يستعملوا أي نوع من أنواع الأسلحة». يفند الدليل الأخير، مزاعم الجيش الأميركي بأن جنوده تعرضوا لإطلاق نار من داخل المنزل، وهو الركن الذي بنى عليه الجيش الأميركي قصته عن المجزرة.
نتائج التحقيق الأميركي
برأ الجيش الأميركي جنوده في شكل كامل في بيان أصدره في الرابع من حزيران (يونيو) 2006، (قبل أربعة أيام فقط من مقتل زعيم تنظيم القاعدة أبو مصعب الزرقاوي). وقال المتحدث باسم القوات الأميركية الجنرال وليام كالدويل، يومها إن «تحقيقاً فتح في اليوم التالي (لمجزرة الإسحاقي)، وأظهر أن القوات الأميركية عملت وفق الضوابط العسكرية التي تحكمها في العراق».
اعترف كالدويل بأن التحقيق أثبت مقتل «ما بين 4 إلى 13 شخصاً في العملية»، متحدثاً عن أن الجيش الأميركي «داهم بلدة الإسحاقي في 15 آذار الماضي (2006) بناء على معلومات استخباراتية مؤكدة، واعتقل إرهابياً (...) هو أحمد عبدالله محمد العتيبي، بينما قتل آخر يدعى عدي فارس».
كالدويل قال إن الأول (العتيبي) يتزعم خلية في تنظيم القاعدة، أما الثاني «عدي فارس، والمكنى بأبي أحمد، فهو عراقي متورط بصناعة العبوات الناسفة، وتجنيد سكان محليين في حركة التمرد». وأعاد كالدويل رواية قصة المجزرة بطريقة اعتادت عليها القوات الأميركية حينذاك، وهي أنها «تعرضت لدى وصولها إلى المنزل لإطلاق نار مستمر من داخله (...) ما استوجب استدعاء قوات إسناد جوي للسيطرة على الموقف»، والقيام بـ «عمليات تكتيكية» داخل المنزل المستهدف الذي عثر فيه على «جثة المدعو عدي فارس مع جثث ثلاثة أشخاص غير مقاتلين»، مشيراً إلى أن ضابط التحقيق «رجح أن يكون تسعة أشخاص إضافيين قتلوا نتيجة أضرار جانبية نجمت عن الاشتباك، ولكن لم يتسنَّ تحديد العدد الدقيق بسبب الجدران المنهارة والأنقاض الهائلة». أنهى كالدويل قصته بأن «اتهام جنود أميركيين بإعدام عائلة تعيش في منزل آمن بإطلاق النار على أفرادها مباشرة وقتلهم بدم بارد، ثم قصف المنزل بعد ذلك لإخفاء الجريمة، شيء لا أساس له من الصحة».
النتائج التي أعلنها كالدويل تناقضت بالكامل مع نتائج أخرى أعلنها الجيش الأميركي منذ اليوم الأول لتنفيذ العملية وحتى اليوم الأخير الذي سبق بيان كالدويل، فكلها تشير إلى أن «مسلحاً واحداً وامرأتين وطفلاً قتلوا في الهجوم».
ووفقاً لرواية كالدويل، فقد قتل أربعة أشخاص (أبو أحمد، وثلاثة آخرون هم امرأتان وطفل) إضافة إلى تسعة آخرين (هم بقية الضحايا)، ما يعني أن المجموع كان 13 قتيلاً. لكن تناقض الأرقام، وعدم التفريق بين وجود 4 جثث (البيان الأميركي الأول) أو 13 جثة (بيان كالدويل) أو 11 جثة (عدد الجثث التي تم انتشالها من المنزل المدمر وفق شرطة الإسحاقي)، يشير بوضوح إلى أن الأميركيين كانوا يخفون كل الحقائق المتعلقة بتنفيذ المجزرة، بما فيها العدد الحقيقي للضحايا.
السؤال المحير الذي لم يجب عنه الأميركيون في كل بياناتهم، هو كيف أن العتيبي تمكن من البقاء حياً بعد إطلاق نار كثيف تم توجيهه للمنزل طوال 15 دقيقة من كل الجهات، ثم إطلاق نار متواصل لمدة 20 دقيقة داخل المنزل.
كيف قتل الجميع، بمن فيهم الأطفال الخمسة، ونجا العتيبي؟ ولو صح أن الجنود الأميركيين كان لديهم القدرة على اعتقال العتيبي من دون قتله، لماذا قاموا بإبادة الآخرين على رغم أن غالبيتهم كانت من النساء والأطفال غير المسلحين أصلاً.
المقاتل العراقي (الميت الحي)
تهرب الجيش الأميركي من الإجابة عن هذا السؤال على رغم محاولات كاتبة التحقيق المتكررة للحصول على تعليق منهم، وهو الشيء ذاته الذي فعلته السفارة الأميركية التي أبلغت كاتبة التحقيق بأن «ليس لديها أي تعليق».
تذرعت القوات الأميركية بوجود مقاتل عربي الجنسية داخل منزل العائلة المنكوبة يدعى أحمد عبدالله العتيبي، ومسلح عراقي يدعى عدي فارس، لكن المفاجأة الأولى التي وثقتها كاتبة التحقيق، أن المقاتل العراقي الذي زعمت القوات الأميركية بأنه قتل أثناء الهجوم (عدي فارس عبدالله المجمعي، الملقب بأبي أحمد)، ما زال حياً. ولم تفلح محاولات كاتبة التحقيق في إقناع السلطات العراقية بالسماح لها بلقاء عدي فارس في سجنه بمدينة تكريت.
عدي فارس صار سجيناً شهيراً منذ أن نجح في الهروب من السجن مع 15 سجيناً آخر من مسلحي تنظيم «القاعدة»، في أيلول (سبتمبر) عام 2009. وتابع كل العراقيين حينذاك تفاصيل البحث وإلقاء القبض على السجناء الهاربين، والتي انتهت بإلقاء القبض على آخرهم، عدي فارس نفسه، بعد عامين من فراره.
في اتصال هاتفي أمنه «وسطاء» مع والد عدي فارس، قال الأخير إن ولده كان معتقلاً من عام 2005 لدى القوات الأميركية، وإنه سمع بمقتله داخل منزل فائز هراط مثلما سمع الناس، لكن الأمر لم يكن صحيحاً على الإطلاق لأنه تمكن من زيارته مرات متعددة بعد تنفيذ عملية الإسحاقي.
رحلة البحث عن (الزعيم الكويتي)
بامتناع القوات الأميركية عن التعليق، وثبوت أن المسلح العراقي عدي فارس هو إما مقتول حسب البيانات الأميركية، أو أنه يكن في المنزل أصلاً لأنه كان معتقلاً حينها، لم يبق من شهود تلك المجزرة سوى المقاتل الكويتي أحمد عبدالله العتيبي الذي ذكرت البيانات الأميركية أنه كان موجوداً في المنزل وألقي القبض عليه أثناء العملية.
المعلومات المتوافرة عن العتيبي في المواقع الجهادية، تشير إلى أنه كان في الرابعة والعشرين من عمره حين نفذت مجزرة الإسحاقي، وكان قد ألقي القبض عليه في عام 2005 بتهمة التخطيط لقلب النظام في الكويت مع عناصر تنظيم «أسود الجزيرة» التابع لتنظيم القاعدة، ثم أفرج عنه بكفالة في آب (أغسطس) 2005. هرب العتيبي بعد الإفراج عنه من الكويت، ودخل إلى العراق متسللاً من سورية بحجة المتاجرة بالخيول العربية الأصيلة، وألقي القبض عليه، كما تقول البيانات الأميركية، داخل منزل فائز هراط في منطقة الإسحاقي في 15 آذار 2006.
تشير سجلات العتيبي التي اطلعت كاتبة التحقيق على بعض محتوياتها عبر مسؤول أمني رفيع (تتحفظ كاتبة التحقيق عن ذكر اسمه أو منصبه حفاظاً على وضعه الوظيفي)، إلى أن العتيبي، على رغم أن اعتقاله تطلب إبادة عائلة عراقية بالكامل، أطلق سراحه من قبل الجيش الأميركي وسلم للسلطات العراقية في تشرين الأول 2008، وحكم بالسجن حينها لمدة ست سنوات وفق المادة القانونية المتعلقة بعبور الحدود من دون أوراق رسمية، على رغم اعترافه للقوات الأميركية بأنه نفذ عمليات مسلحة داخل العراق لمصلحة تنظيم «القاعدة».
قضى العتيبي قرابة العامين في سجن سوسة بمدينة السليمانية شمال العراق، قبل أن يطلق سراحه ويسلم إلى بلاده في تشرين الثاني (نوفمبر) 2010.
أسرار ليلة القبض على العتيبي
تورد السجلات الخاصة بالعتيبي، أنه دخل العراق آتيا من سورية متسللاً من أجل الجهاد مع تنظيم القاعدة، وأنه أعتقل يوم 14 آذار 2006، وتم احتساب موقوفيته الرسمية بدءاً من 15 آذار. في ذلك إشارة إلى أنه كان في السجن أثناء عملية الإسحاقي.
ويعتقد الخبير العسكري ناطق جواد، أن هذه المعلومة، قد تكون دليلاً على أن اسم العتيبي حشر في قضية مجزرة الإسحاقي حشراً، كجزء من عملية تبرير القيام بالمجزرة.
لا ينفي جواد بطبيعة الحال أن هناك إمكانية لأن يكون العتيبي موجوداً داخل المنزل فعلاً في حال ثبت أن يوم 14 آذار كان موعد صدور مذكرة الاعتقال وليس تنفيذها.
وثائق "ممنوعة"
امتنع مدير سجن سوسة، العميد مؤمن خضر، عن السماح لكاتبة التحقيق بالاطلاع على السجلات الخاصة بالعتيبي من دون الحصول على موافقة رسمية من وزارة العدل العراقية.
منذ نهاية العالم الماضي وحتى آب من هذا العام، واصلت وزارة العدل رفضها السماح لكاتبة التحقيق بالاطلاع على سجلات العتيبي.
مجلس القضاء الأعلى هو الآخر، اعتذر عن كشف ملف العتيبي لأن «مجريات المحاكمات الأصولية للمعتقلين سرية، ولا يمكن الكشف عن ملفاتها»، وفق المتحدث عبدالستار البيرقدار. مكتب الصليب الأحمر الدولي في العراق (ومعه أيضاً مسؤولة في مكتب العاصمة الأردنية عمان، ومسؤولة أخرى في مكتب مدينة السليمانية شمال العراق)، امتنع عن الإدلاء أية معلومات خاصة بالملف المرقم (iqz012953)، وهو ملف العتيبي نفسه.
السفارة الأميركية اكتفت بعد اتصالات متكررة، بعبارة «لا تعليق».
سياسة الرعب
يفسر رئيس مؤسسة حمورابي لحقوق الإنسان عبدالرحمن المشهداني، طريقة القوات الأميركية في ارتكاب المجزرة بأنها «جزء من سياسة بث الرعب التي انتهجتها لإرهاب المدنيين في القرى والمدن العراقية، من طريق استهداف بيت عشوائي وقتل أفراده جميعاً».
شهود العيان، وبينهم إخوة فائز هراط وعدد من السكان القريبين، أكدوا أن الهجوم كان مباغتاً، وأن أي إطلاقة لم تصدر من المنزل قبل بدء الهجوم عليه أو أثناء عملية الاقتحام، كما أن القوات المهاجمة لم تقم بالمناداة على أي شخص موجود في المنزل كي يسلم نفسه كما جرت العادة.
الخبيرالعسكري عمر الجبوري أكد أن مروحيات الشينوك التي حملت الجنود الأميركيين وهاجمت المنزل، كانت مزودة بأجهزة متطورة يمكنها كشف عدد الموجودين في المنزل وأحجامهم، وفيما إذا كانوا كبارًا أم أطفالاً صغار، وأماكن وجودهم، عبر الأشعة تحت الحمراء. لهذا الأمر، كما يعتقد الخبير العسكري، حرصت القوات الأميركية على إبادة كل الموجودين في المنزل كي لا تُبقي أي شاهد ما جرى، باستثناء الجنود الأميركيين أنفسهم.
بين بغداد وواشنطن
بعد اتصالات متكررة أجرتها كاتبة التحقيق مع مستشار رئيس الوزراء العراقي، علي الموسوي، للتعليق على حديث الناطقة باسم وزارة الدفاع الأميركية حول أن الوثيقة التي نشرها موقع ويكيليكس بشأن المجزرة لن تجبر الجيش الأميركي على إعادة فتح التحقيق في القضية مجدداً، أشار الموسوي إلى أن الحكومة العراقية «ستفتح تحقيقاً في ضوء المعلومات الجديدة التي سربها موقع ويكيليكس، وأن الحكومة ستسلك كل السبل القانونية لضمان حقوق الضحايا».
لكن الموسوي أشار إلى أن العراق «لا يمكنه أن يفتح التحقيق إلا بالتعاون مع الجانب الأميركي، لأن أوليات القضية موجودة لديه»، كما أن الاتفاقية العراقية الأميركية تنص على أن من حق بغداد «فتح التحقيق في حال ثبوت الإعدام التعسفي من قبل القوات الأميركية فقط». مع هذا، يعود مستشار رئيس الوزراء ليؤكد أن العراق «لن يفرط بحقوق مواطنيه، وسيتابع القضية حتى إعادة فتح التحقيق»، من دون الخوض في التفاصيل.
يعقب الخبير القانوني طارق حرب على تعهدات الحكومة بالقول إن هذا «ليس سهلاً على الإطلاق»، فلا يمكن أن يبدأ أي تحقيق في مثل هذه القضايا إلا عبر الطرق الديبلوماسية، لأن الجندي الأميركي بموجب الاتفاقية العراقية الأميركية «محصن» ولا يمكن محاكمته في بغداد، بل أمام المحاكم الأميركية فقط.
مسؤول رفيع في الخارجية العراقية أبلغ كاتبة التحقيق أن هناك «قضايا مشابهة لحادثة الاسحاقي قد يجري التعامل معها مستقبلاً على ضوء الاتفاقية العراقية الأميركية»، لكن هذا مرهون «بالأدلة التي تظهر في المستقبل»، رافضاً أن يعتبر تصريحه تصريحاً رسمياً «لحساسية القضية».
مجازر موازية
لم تكن مجزرة الاسحاقي الحادث الوحيد من نوعه في العراق، فقد سبقتها، واعقبتها، مجازر متعددة في عدد من المدن العراقية، ابرزها مجزرة حديثة التي سبقت مجزرة الاسحاقي بقرابة أربعة اشهر، سقط ضحيتها 24 مدنياً بينهم عشرة من الاطفال والنساء.
العملية كما اثبتت المحاكمة لاحقاً كانت انتقامية، ونفذها الجنود الأميركيون بعد مقتل احد رفاقهم بتفجير عبوة ناسفة في دوريتهم.
استمرت المحاكمات ثلاثة اعوام، وكان يعتقد حينها أنها ستنطوي على احكام مشددة لردع الجنود الأميركيين، لكن الحكم كان صادماً، فقد اسقطت المحكمة الأميركية التهم عن ستة من المتهمين بارتكاب المجزرة، واكتفى القاضي في محكمة بقاعدة بندلتون العسكرية بولاية كاليفورنيا بتخفيض الرتبة العسكرية لقائد المجموعة التي ارتكبت المجزرة، جندي المارينز السرجنت فرانك ووتريتش.
كانت هذه الاحكام دليلاً على ان القضاء الأميركي يتهاون في حماية المدنيين العراقيين من عمليات القتل على ايدي جنود الجيش الأميركي، فالاحكام لم تكن متناسبة مطلقاً مع الجرائم التي ترتكب، فمقابل حياة 24 مدنياً عراقياً في مجزرة حديثة، كان هناك رادع وحيد هو «تخفيض رتبة احد الجنود».
الأمر نفسه تكرر في مجزرة ارتكبها الجيش الأميركي أواخر العام 2006، فقد قتل 32 مدنياً عراقياً يسكنون منزلين متجاورين، بينهم ستة اطفال و8 نساء. ولم يتم فتح تحقيق لمعرفة ملابسات المجزرة لأن الجيش الأميركي كان يعتقد، وفق ما ذكره بيان صدر بعد الحادثة، بأن الجنود «راعوا قواعد الاشتباك حين ردوا على اطلاق نار وقع عليهم من المنازل المستهدفة». لم يختلف الأمر كثيراً في مجزرة الاسحاقي، فالقائد الأميركي في القاعدة القريبة من منطقة الاسحاقي نفى علمه منذ البداية بعملية من هذا النوع، ثم ابلغ الاهالي في ما بعد ان العملية نفذها جنود قدموا في مروحيات من قاعدة اميركية في العاصمة بغداد.
أجرت القوات الأميركية تحقيقات عابرة مع اخوة الضحية فائز لمدة ساعتين، وبعدها اتصل بهم شخص اميركي بلكنة لبنانية طالباً منهم التنازل عن اقامة اي دعوى على الجيش الأميركي في مقابل تعويض مادي «معقول»، وحين رفض اخوة فائز العرض، لم يتصل بهم احد مجدداً، وأغلق التحقيق.
ملاحظتان من الناشر
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق