يمكن القول أن تجارب الحكم في الاقطار العربية، قد جسدت معظم التيارات السياسية والفكرية المعروفة.وقد حكم عليها بالفشل في ترجمة أفكار تلك التيارات على أرض الواقع.فلا التيار الاشتراكي تمكن من تطبيق الاشتراكية، ولا التيار القومي تمكن من تطبيق الوحدة، ولا التيار الليبرالي تمكن من تطبيق الحرية والديمقراطية.
لقد واجهت الرأسمالية الاشتراكية، وتجسدت تلك المواجهة في الحرب الباردة بين الاتحاد السوفيتي السابق والولايات المتحدة، وانتهت المواجهة بانهيار الاتحاد السوفيتي، وزوال المنظومة الشيوعية، وقيل في حينه "أن أحسن وصفة طبية لانهيار النظام الاشتراكي هي الديمقراطية " حسب تعبير برجنسكي، ولكن ما حصل لم يلغي الاشتراكية، أو يثبت أن البشرية لم تعد بحاجة الى الاشتراكية أو العدالة. والذي انهار هو النظام الذي لم يستطع تطبيق الافكار الاشتراكية التي تسعد الانسان كما أن الرأسمالية لم تسعد البشرية، ولا سيما بعد الكوارث التي حصلت في الدول الرأسمالية، وبالذات في الولايات المتحدة، التي كانت تتربع على قمة اقتصادات العالم. وقد عادت الادارة الامريكية الى فرض سيطرة الدولة على المؤسسات الاقتصادية، في محاولة منها للحد من انفلات الشركات والقطاع الخاص، ومن الانهيار الاقتصادي الذي سببته المضاربات في البورصة، كما ان الدول الاوروبية تعاني من ازمات اقتصادية خانقة وبالذات دول الجنوب الاوروبي، ولم يحل ازماتها كل المساعدات والقروض وخاصة اليونان والبرتغال واسبانيا .
ويمكن القول أن الرأسمالية ليست هي الحل لمشكلات الناس، نظرا لجشع الرأسماليين وتكالبهم على جمع الثروة على حساب غالبية أبناء المجتمع.ولا نغاير الحقيقة عندما نقول أن الثورات الاشتراكية التي حدثت في العالم من بداية القرن العشرين، لم تحقق القفزة النوعية التي كان مأمولا منها أن تحققها، رغم أنها حققت تقدما اجتماعيا لبلاد وشعوب كانت تعاني بنسب مختلفة من التخلف، ولكنها لم تحقق التغيير النوعي في الانسان، فلم يخلق الانسان الاشتراكي الجديد. ويبدو أن الفرصة قد ضاعت على هذه الثورات رغم القوة التي بلغتها بعض البلدان، لكنها كانت قوة مادية لم تصمد أمام المنافسة مع الاخرين، ولم تصمد للزمن، لانها لم تكون الانسان، والمجتمع الاشتراكي.
وكما كان النظام الاشتراكي في الاتحاد السوفيتي يعاني من مشكلات مجتمعية، وفي مقدمتها الاقتصادية التي أثرت على مستوى معيشة الافراد، وبمعنى أدق على رفاهيتهم، فان النظام الرأسمالي يعاني من المشكلات ذاتها، وان كانت بنسب أقل حدة. ولكن الامر الاهم أن الشيوعية والماركسية أخذت تتراجع عن شعاراتها فيما يخص الدين وأهميته ودوره في المجتمع، ولا سيما موقف الاحزاب الشيوعية في بلدان أوروبا الغربية.وتبين أن الفصل بين العقيدة الدينية والعقيدة القومية، كان فصلا مفتعلا، اقتضتها ضرورات المرحلة التي حكمت فيها الاحزاب الشيوعية عدة بلدان، وها هي الاحزاب الشيوعية تعيد النظر في مسارها الفكري، وحتى تفكر في تغيير اسمها.
التجارب العربية :
شهدت بلداننا العربية اشكالا من النظم السياسية، وقد جربت معظم التيارات حظها في الحكم، ولكنها لم تتمكن من بناء نموذج متميز، يمكن أن يقتدى به، كما ان القوى الاستعمارية وضعت العقبات والعراقيل بوجه تلك التجارب حتى لا تصبح انموذجا يحتذى به. وعليه فقد فشلت التجربة الشيوعية في اليمن الجنوبي، كما فشلت تجربة الحكم الاسلامي في السودان وفي أفغانستان، كما ان تجربة الاحزاب الدينية الطائفية في العراق لم تجلب الى العراقيين غير الشقاء والفقر والقتل والتهجير، وهاهي تجربة ايران الملالي (ولاية الفقيه) تترنح بين التيار الاصلاحي، والتيار اليميني المتشدد، كما ان الصومال يعاني من الفقر والتمزق تحت ظل حراب الجماعات الاسلامية المتطرفة.
الجماعات الاسلامية نهضت من جديد مستغلة الحراك الشبابي في عدد من الاقطار العربية، وكما منت النفس بقرب استلام الحكم في مصر أو تونس أو ليبي، فها هي تتربع اليوم على كراسي الحكم. وتظهر مرونة في تعاملها مع دول الغرب الاستعمارية، وحتى مع الكيان الصهيوني، ومستقبل قضية فلسطين. وقد وجد بعض الاسلاميين فرصتهم للهجوم على التيار القومي تحت ذريعة ان هذه الانظمة ديكتاتورية ولم تطبق الديمقراطية بالنموذج الغربي، وفي ضؤ هذا الواقع تبدي القوى والتيارات السياسية تخوفا من تسلم الاحزاب الاسلامية الحكم في بلدان الثورات. لماذا هذا التخوف؟ هل الخوف من اقصاء الاخرين؟. نعم هذا جانب، والجانب الاخر هو التطرف الذي تبديه الجماعات السلفية في تغيير البناء الاجتماعي تحت يافطة الدين والشريعة.
أما التيار القومي فليس أحسن حظا من التيارات الاخرى، فقد حصل انقلاب يميني على نظام جمال عبد الناصربعد تسلم انور السادات الحكم، ومن ثم توقيع اتفاقيم (كامب ديفد) هذا الحكم، ضيع دور مصر القيادي، وهدر طاقات مصر البشرية والاقتصادية، وبعد الانتفاضة في مصر يبقى الرهان على دور مصر القومي محفوفا بالاعتقادات الضنية والريبة والشك.
أما تجربة البعث في العراق فقد أجهضت بمؤامرة غربية ـ صهيونية تحت ذرائع ثبت كذبها، انتهت بغزو العراق واحتلاله، وهاهو العراق يعيش تحت حكم القوى الطائفية المدعومة من ايران. وقد ضاع دوره القومي التحرري، وضاعت تجربته في البناء الاشتراكي والاستقلال الوطني، وفقد العرب دور جيشه الوطني صاحب الجولات المشهودة لحماية البوابة الشرقية للوطن العربي من اطماع نظام الملالي اصحاب المشروع الطائفي التقسيمي،
أما سوريا فهي تتعرض لمؤامرة مزدوجة من الخارج والداخل، ولم تفلح كل محاولات الوساطة او محاولات الاصلاح من طرف واحد، وقد يتعرض هذا القطر العربي الى ذات المصير الذي تعرض له العراق، وتقع على النظام الحاكم مسؤولية كبيرة في انه لم ينتصر لمبادئ البعث الخاصة بالشعب، ولم يستطع التجاوب مع طموحاته في الوحدة الوطنية.
لقد تعرض التيار القومي في كل الاقطار العربية الى حملة تشويه كبيرة من وسائل الاعلام العربية الرجعية المرتبطة بالقوى الاستعمارية، ومن الحركات الدينية السياسية ايضا. وقد عملت كل هذه الجهات على شيطنة الفكر القومي، وتشويه تجارب الاحزاب القومية، وما حصل في العراق نموذج للحقد الغربي والفارسي على هذا الفكر.
هل انتهى التيار القومي ومعه فكره القومي التحرري الوحدوي؟، ربما يرى البعض أن الفكر القومي قد انتهى بأنتهاء الانظمة التي مثلته، ولكني أقول من تجارب الماضي القريب، ان الفكر القومي باقي في ضمير ووجدان الانسان العربي. ومن المستحيل أن يتخلى هذا الانسان عن طموحه في تحقيق الوحدة والحرية والعدالة الاجتماعية. وفي ضؤ هذه الحقيقة التي قد يقرها البعض وينكرها البعض الاخر، ما هو المطلوب من المنتمين الى التيار القومي؟. أليس من الواجب أن تتم مراجعة للمسيرة الماضية؟ أليس من الواجب تشخيص السلبيات؟.
ان الحقيقة الساطعة هي، أن القومية العربية التي يؤمن بها البعث، ومعظم القوميين هي الترابط العضوي بين العروبة والاسلام، رغم كل الجهد الذي بذلته القوى المعادية لدق اسفين بينهما وروج لها بعض المتشددين من التيارات الدينية والسلفية بالذات. هذه الحقيقة أقرها الاسلاميون المعتدلون والقوميون في أكثر من لقاء ومؤتمر خلال السنوات الماضية. والخوف آت من اصابة الاسلاميين بالغرور، كونهم يشعرون بقوتهم في الشارع، واعتقادهم أن من حقهم الانفراد بالسلطة واقصاء القوى والتيارات السياسية الاخرى. التجربة القومية في العراق اكدت اهمية الاستقلال الوطني والقومي، وما حصل بعد عام 2003 هو تحطيم هذا الاستقلال، بل وتفتيت المجتمع الى قوميات واعراق واديان وطوائف وقبائل.
السلطة هي سلطة الشعب، ولذلك لم يعد من المنطق أن ينفرد حزب أو تيار بالسلطة بعد هذه التجارب، وأي تفرد في السلطة سيقود الى الاحتراب والاقتتال بين أفراد الشعب الواحد. فهل تتقدم الاحزاب كلها ومن كل التيارات الى مراجعة مسيرتهم الماضية، والنظر الى المستقبل بافق ايجابي أخذين بعين الاعتبار مصالح ابناء الشعب قبل مصالح الافراد والاحزاب؟
|
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق