قال سبحانه وتعالى

قال سبحانه و تعالى
((ترى كثيراً منهم يتولون الذين كفروا لبئس ما قدًمت لهم أنفسُهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون * ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أُنزل إليه ما اتخذوهم أولياء ولكنً كثيراً منهم فاسقون))
صدق الله العظيم

الأربعاء، 28 يناير 2015

إفتتاحية طليعة لبنان الواحد كانون الثاني 2015 حرية التعبير وازدواجية المعايير

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
إفتتاحية طليعة لبنان الواحد
كانون الثاني 2015
حرية التعبير وازدواجية المعايير
شبكة البصرة
في السابع من كانون الثاني، استفاقت باريس على وقع صدمة أمنية قوية، تمثلت بالهجوم على أسبوعية "شارلي إيبدو"، التي قالت الجهة المشغلة للمجموعة التي نفذته بأنها جاءت رداً على نشر صور مسيئة للنبي محمد، وأن الاتجاه الراجح في الفقه الإسلامي لا يجيز تشخيص الأنبياء الرسل، فكيف إذا كان التجسيد بالصورة يعبر عنه بشكل كاريكاتوري، ويحاكي ممارسات تندرج تحت توصيف الإرهاب.
هذا الحدث الأمني، الذي أحدث ارتجاجاً سياسياً، تباينت ردود الفعل عليه. فمنهم من اعتبره جريمة إرهابية موصوفة كونه شكل اعتداءً على حرية الرأي والتعبير، ومنهم من اعتبره، رد فعل مادي على اعتداء معنوي طال رمزية دينية، ترتقي حرمتها حد المقدس عند الشريحة العظمى من الذين يدينون بالإسلام إيماناً.
هذا الحدث الذي تباينت الرؤى والمواقف حوله، كيف يجب النظر إليه وهو يقع تحت تأثير تجاذب المواقف على خلفيات سياسية ودينية؟
إن حدثاً بهذا الحجم و التأثير، وبالشكل الذي برز للعيان، لا يستقيم تقويمه موضوعياً إلا إذا تمت مقاربته من زاويتين: الزاوية القانونية والزاوية السياسية.
في الزاوية القانونية، أن الحادث هو جريمة مكتملة الأركان المادية والمعنوية، وأن مرتكبيه يقعون حكماً تحت طائلة المساءلة القانونية، للقانون الواجب التطبيق بحكم الصلاحية الشخصية والمكانية، وهذا متروك للقضاء الفرنسي ليصدر حكمه فيه.
أما في الزاوية السياسية، وهذا هو الأهم، فإن الجريمة جاءت في سياق صراع سياسي حاد تنخرط فيه أطراف عديدة بعضها يقدم نفسه تحت مسمى الدول، وبعض آخر تحت مسمى المجموعات والأفراد. وبالتالي فإن من ينخرط في صراع وفي أي دائرة من دوائره الملتهبة يجب أن يتوقع ردات فعل قد تكون محسوبة أو غير محسوبة.
إن الذين الذي استفظعوا الجريمة، ودانوها بشدة، اعتبروا أن هذا العمل الإرهابي هو اعتداء على حرية الرأي والتعبير التي كفلها الدستور الفرنسي، ومن يعش في مجتمع حائزٍ على جنسيته الوطنية عليه أن يكون تحت سقف القانون. وأن المجلة عندما نشرت الصورة إنما كانت تمارس عملها استناداً إلى حرية التعبير والرأي التي كفلها الدستور.
أما الذين اعتبروا أن العملية التي نفذت ضد المجلة هي رد على إساءة دينية. وبالتالي فإن حرية الرأي والتعبير لا تبرر التجديف والنيل من معتقد ديني كفله الدستور أيضاً.
في ما بين الرأيين، فإن الفعل هو جريمة وبالتالي فإنها مدانة، وكان يفترض بمن يعتبر أن الرسوم أساءت إليه أن يلجأ إلى أسلوب آخر، وهو المقاضاة باعتبار أن ما أقدمت عليه "شارلي إيبدو"، هو تعد موصوف على حرية المعتقد وحرمته التي كفلها الدستور، كما كفل حرية الرأي والتعبير. ولو سُلك هذا الطريق للرد على ما اعتبر إساءة وتطاولاً على رمزية دينية ترتقي حد المقدس، لكان ساهم ذلك في حشد رأي عام أوسع حوله، ولكان دفع باتجاه تعزيز مواقع القوى المناهضة للعنصرية حيث يسجل الخطاب العنصري ارتفاعاً ملحوظاً في منسوبه في "الغرب السياسي".
لكن بعيداً عن المساجلة حول المفاضلة بين الأسلوبين، وحيث نأخذ بوجهة نظر المقاضاة تحت سقف القانون، فإن الحادثة ومن خلال ردود الفعل عليها كشفت الغطاء عن واقع مجتمعي مأزوم في الغرب السياسي من ناحية، وقدمت دليلاً جديداً عن حجم التكاذب والخبث الذي تدار فيه السياسة الدولية وخاصة من مواقعها الأكثر تأثيراً في تحديد اتجاهاتها.
في الجانب الأول، تبين أن مجتمعات "الغرب السياسي" بشكل خاص، تعاني من خلل بنيوي، بحيث أن الجاليات التي وفدت إلى هذه المجتمعات، لم تصل مرحلة الاندماج الكلي بها وبالتالي أن تباين الموقف مع هذه الحادثة كما غيرها من نفس المواصفات، لم يقتصر على الشعوب التي اعتبرت أن إساءة حصلت لرمزية دينية لها، بل طال السجال مكونات هذه المجتمعات، وهذا يعني أن مجتمعات الغرب السياسي، لم تعد مجتمعات بسيطة في التركيب البنيوي، بل باتت مجتمعات مركبة.
أما الجانب الثاني وهو الأكثر أهمية في استدلال النتائج السياسية فهو استحضار قاعدة ازدواجية المعايير في التعامل مع ظواهر متشابهة.
هذه الازدواجية أمثلتها الحسية على صعيد التعامل الدولي أكثر من أن تحصى بدءاً من القرارات الدولية، التي ينفذ بعضها تحت الفصل السابع إذا كانت تخدم مصالح الدول الأكثر نفاذاً في السياسة الدولية، ويترك البعض الآخر للتسويف والمماطلة والموت إذا كان يتعارض مع مصالح هذه الدول وصادف أنها لم تسقطها باستعمالها حق النقض.
ومن الأمثلة أيضاً، اعتبار الجرائم التي ترتكبها مجموعات مدرجة تحت تصنيف القوى الإرهابية أعمالاً إرهابية كتلك التي نفذت ضد أسبوعية "شارلي إيبدو" وتتجاهل الجرائم الموصوفة التي ترتكبها الدول بحق الشعوب، ويكفي إبراز أنموذجاً فلسطين والعراق. وأن من غريب المفارقات أن يتصدر نتنياهو تظاهرة باريس والإرهاب الصهيوني يرتقي حد الإبادة الجماعية ضد شعب بأكمله.
إن هذه الأمثلة وهي على سبيل المثال لا الحصر لأنها أكثر من أن تحصى في عجالة. لكن ما يجب التوقف عنده، هو حرمة حرية التعبير والرأي والتي لا يجوز تقييدها سنداً لحجة الذين اعتبروا أن المجلة الفرنسية مارست عملها ضمن نطاق القانون الذي كفل حقها.
إننا مع حرية الرأي والتعبير بكفالة القانون والدستور، لكن مع يعتبر أن حرية الرأي والتعبير هي حق مقدس لا يجوز المساس به، إلا يفترض به أن يأخذ بمبدأ المساواة والمعاملة بالمثل، وهي من ركائز الدساتير الوضعية، وخاصة الدستور الفرنسي الذي يستند إلى مبادئ الثورة الفرنسية العظمى؟
إن القانون الفرنسي، كما قوانين وضعية غريبة أخرى حرمت كل ما اعتبرته "معادٍ للسامية" قولاً كان الأمر أم فعلاً. فكيف لا يكون هذا التحريم قيداً على حرية الرأي والتعبير، ويكون تحريم المس برمزيات دينية ترتقي حد المقدس عند منتمين بالإيمان لأديان أخرى هو قيد على حرية الرأي والتعبير التي كفلها الدستور؟ كيف يحرم القانون مجرد إبداء وجهة نظر حول صحة واقعه مادية، قد تحتمل المبالغة في أرقامها أو لا تحتمل والمقصود بذلك "الهولوكست"، ولا يعتبر ذلك قيداً على حرية الرأي التعبير ولا تعتبر الدعوة لعدم إسقاط أعمالاً عنفية توصف بالإرهاب بالمفردات القانونية والواقعية على منظومة قيمية دينية مندرجة في السياق نفسه؟
ألم تشن حملة شعواء على المفكر والفيلسوف الفرنسي روجيه غارودي لمجرد أنه شكك بحجم الهولوكست؟ ألم يجرد أحد الكهنة في الكنيسية الكاثوليكية الفرنسية من رتبته الكهونتية لمجرد أن أبدى وجهة نظر تحالف البروبغندا الإعلامية التي روجتها الحركة الصهيونية العالمية حول "الهولوكست"؟
ألم يطرد كثير من الصحفيين في صحف ومجلات ومحطات تلفزة أجنبية أو يفرض على بعض آخر الاستقالة من المؤسسات الإعلامية التي يعملون بها لمجرد أنهم أبدوا وجهات نظر موضوعية حول الجرائم التي ترتكبها الصهيونية بحق شعب فلسطين والحقوق الوطنية لهذا الشعب؟
ألا يشكل كل هذا إرهاباً على حرية الرأي والتعبير؟
إن ازدواجية المعايير التي تبرز جلياً في التعامل السياسي، تبرز مجدداً من الموقف من حرية الرأي والتعبير، بحيث يبدو أن القيد على هذا المبدأ الدستوري لا يكون المساس به قائماً، إذا كان الأمر يتعلق بالحركة الصهيونية ومشروعها السياسي بكل أسانيده وتبريراته المعتقدية، أما إذا كان عكس ذلك فالأمر مختلف كلياً.
من هنا فإن النظر الى جريمة باريس من خلال ردود الفعل عليها إنما يطرح إشكالية جديدة، وهذه المرة ليس من خلال التعامل بانتقائية مع القرارات الدولية المتعلقة بالحالات المتشابهة في مواصفاتها، بل أيضاً من خلال الانتقائية في التعامل مع الحقوق الأساسية للإنسان، ومنها حرية الرأي وكتعبير.
وبالتالي، فإن الجريمة التي نفذت في باريس واستجلبت هذا الرد السياسي، أعطت دليلاً جديداً على عورات النظام الدولي الذي لا يطبق ازدواجية المعايير في القرارات الدولية وحسب، بل أيضاً يطبق هذه القاعدة في التعامل مع قضايا حقوق الإنسان.
من هنا، فإن الرد على الإرهاب اذا كان يفترض فيه ان يتسم بالصدقية وان لا يصار إلى توظيفه في سياق تحقيق أهداف سياسية، فعليه ان لا يكون انتقائياً، ولا يكون مقتصراً على إرهاب الأفراد والمجموعات بل فعاليته بشموله إرهاب الدول وهذا هو الأخطر وانطلاقاً من تحديد أسبابه السياسية ومسؤولية الأطراف المنفذة له.
ولو أقدمت فرنسا بعد تلك الحادثة على وضع السياسة الدولية على مشرحة التقويم لتحديد الأسباب التي ولدت هذه الظاهرات المدرجة تحت توصيف الإرهاب، وتحديد من هو المستفيد الفعلي من تلك الأعمال ومنها عملية "شارلي إيبدو" ولو طبقت مبدأ المساواة في التبرير والتحريم لكل ما يعتبر مساً برمزيات اعتبارية، لكان ردها اكتسب مصداقية أكثر، ولكانت وسعت من إطار ائتلاف القوى المناهضة للإرهاب والعنصرية وعندها لما كان نتنياهو الإرهابي بامتياز تجرأ وحضر إلى باريس ليتصدر تظاهرة الاستنكار الدولي.
شبكة البصرة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق